للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تأملات في الأدب والحياة]

للأستاذ إسماعيل مظهر

شذوذ

تاريخ الصراع الأدبي في مصر، وتاريخ الصراع السياسي، يتلخصان في معارك تقوم بين أشخاص، ولقد أدركت هذه الظاهرة النقد أيضاً. فتاريخ النقد في مصر عبارة عن موازنة بين كاتبين أو شاعرين يحاول الناقد أن يعلي أحدهما على الآخر. أما مذاهب الأدب ومذاهب السياسة ومذاهب النقد. فهذه لا قيمة لها في نظر الأديب ولا في العرف السياسي ولا في تقدير الناقد وعامة ذا شذوذ، بل خروج على طبيعة الأشياء

أفهم أن يقوم الصراع الأدبي بين مذهبين يمثلهما كتاب أو شعراء يعتنقون في الأدب مذهباً محدود المرامي بين الغايات. وأفهم أن يقوم الصراع السياسي بين أحزاب تقتتل على مبادئ عامة تتعلق في أكثر الأمر بالخير المنشود للعدد الأكبر من الناس. وأفهم أن يقوم النقد على فكرة منطقية يقتنع الناقد بصلاحيتها وحقها في البقاء، فيمضي في نقد الكاتب أو الشاعر انتصاراً لتلك الفكرة. وأفهم فوق هذا كله أن يقتتل كاتبان ولكن انتصاراً لمذهبين يعتنق كل كاتب مذهباً منهما، والغلبة للأصلح من المذهبين. أما الذي لا أفهمه ولا أستطيع أن أفهمه يوماً من الأيام، فأن يتطوع ناقد لنصرة كاتب على آخر، أو شاعر على شاعر غيره احتساباً لوجه الله الكريم، من غير أن يكون الناقد في نقده مخلصاً أول شيء لمذهب بين في الأدب يعتنقه الكاتب المنتصر له

وما أبرئ نفسي؛ فأن عدم قدرتي على فهم هذه الأشياء قوة لم أشهدها في نفسي إلا منذ عهد قريب، وما بعثها إلا ذلك الصراع الذي قام على صفحات (الرسالة) بين أنصار صديقي الأستاذ العقاد، وصديقي المرحوم الأستاذ الرافعي، صديقان مات أحدهما وأدعو الله أن يمد في عمر الآخر. سكت أحدهما وطواه الزمن، وصمت الآخر على ما كان بينه وبين الأديب الراحل تجلة للموت وتحية لذكرى أديب جاهد في سبيل الأدب، ودفعاً لحزازات ما أجدر الموت أن يكون ماحياً لآثارها وذكرياتها

لقد صمت صاحب الحق الأول؛ وما كان ليتكلم وقد خلا الميدان من مناظره، وهو يعلم أن الكلام في مثل هذا الظرف جريمة في شرعة الأدب، بل خطيئة من المنكرات

<<  <  ج:
ص:  >  >>