كان الجو في بداية أمره منعشاً هادئاً. . تنبعث خلال سكونه الحالم أغاريد طير (الأج) العذبة. . . والمستنقعات قد حفلت بأجسام ضئيلة حية ترسل أنات متحشرجة محزنة أشبه بفحيح الأفاعي. . . وانطلق طائر (البكاسين) فرددت الريح صدى دوي الرصاصة التي صوبت نحوه. . . بيد أنه حينما بدأت الظلمة الحالكة تنشر على الكون غلالتها السوداء.
هبت من ناحية الشرق ريح نفاذة. . . وغاص كل شيء في بحر من الصمت الرهيب. . . وعلت البركة طبقة متماسكة من الثلج. . . وإذا بالغابة كلها خالية مقفرة مخيفة. . .
لقد بدأت علامات الشتاء تظهر على محيا الزمن. .!!
وكان (إيفان فيلكوبولكني) عائداً إلى بيته بعد قضاء يوم مليء بالمغامرات والقنص - وهو ابن أمين مكتبة الكنيسة وطالب بالمجمع الكنائسي - وكانت أنامله قد أصابها شيء من التخدير ووجهه قد اتقد بهبات الريح. . وخيل إليه أن ذلك البرد الذي هبط فجأة. . قد أفسد على الأشياء رونقها. . وران على معالمها. . وأن الطبيعة ذاتها خامرها القلق. . وساورها الاضطراب. . وهذا علة ما شاهد من أن الحلكة قد بدأت تخيم على الأرض أسرع مما كانت عليه من قبل. . وكان كل ما يحيط به مهجوراً كئيباً. . ولم يكن ثمة بارق من الضوء يومض إلا في حدائق الأرامل - وكانت القرية. . وهي على بعد ثلاثة أميال - وكل ما يأخذ العين سابحاً في ضباب المساء البللوري. .
وتذكر الطالب أنه حين غادر بيته كانت أمه تفترش الأديم. عارية القدمين. تنظف وعاء الشاي. . وأبوه جالساً على مقربة من الموقد يعاني آلام السعال. . ولما كان اليوم هو الجمعة الحزينة لم يطبخوا شيئاً. . فاستشعر لذعات الجوع الهائل. . ثم تقلصت أعضاؤه. . ودار بخلده أن مثل هذه الموجات من البرد كانت قد اجتاحت أيام رادك وبطرس وإيفان الجبار. . وأن في زمانهم الفقر المدقع قد تفشى. . والجوع المهلك قد انتشر. . وكذلك نفس