في مجلس من مجالس الرأي يندوا إليه صحابة من أحرار الفكر قد اطمأنوا في حياتهم الوديعة إلى قسمة القدر بعد أن اضطربوا في المكاسب، وتقلبوا في المناصب، وتمرسوا بالأمور، وبلغوا غاية المقدور لهم من مطالب العيش ومآرب النفس؛ فهم يمثلون الرأي الصريح، ويستعملون المنطق الخالص، ويرفعون أنفسهم فوق الأوضاع والأطماع والسياسة، فلا تقيدهم وظيفة، ولا تعبّدهم شهوة، ولا يقودهم حزب؛ في هذا المجلس تستعرض كل ليلة أخبار اليوم وأقوال القوم، فتوزن بالميزان القسط، وتنقد بالنظر الثاقب، فلا يورد خير أو قول إلا حاكمه رأي، ولا رأي إلا هاجمه اعتراض، ولا اعتراض إلا ساوره شبهة.
وأكثر السامرين في هذا المجلس من الكنتيين، فكثيراً ما تسمع كنت وكنت، وقليلاً ما تسمع سأكون وأكون؛ لذلك كان التشاؤم الذي تقتضيه ذكرى الماضي، غالباً فيه على التفاؤل الذي يستوحيه رجاء المستقبل! والشباب الذين يختلفون إليه يهولهم منه عرى الحقيقة وجفاء الواقع، فيستحبون عليهما توشية الأحلام وتزوير المنى، ليستديموا لأنفسهم بواعث النشاط وحوافز الأمل.
وفي إحدى الجلسات الأخيرة جرى بين شاب من هؤلاء وشيخ من أولئك هذا الحوار نسوقه إليك على سرده تصويراً لروح هذا المجلس:
الشاب: وما ذنبنا في هذا الضعف الذي نعانيه؟ أيستطيع قصير القامة أن يطول، ورخو العظام أن يصلب؟.
الشيخ: أما الضعف الناشئ عن قلة العدد وضيق الرقعة فلا حيلة لنا فيه؛ وأما الضعف الناشئ من سوء الخلق وقلة العلم فلا عذر لنا منه. والناس يقومون بالأرواح لا بالأجساد، ويقدّرون بالصفات لا بالأعداد. فلو كان الشرقيون قد بلغوا ما بلغ الغربيون من المدنية والثقافة، لاستحيا هؤلاء أن يعاملوهم كما يعاملون الأرقاء، وأن يساوموهم كما يساومون الأشياء!
الشاب: وهل يمنعنا هذا الضعف العارض من أن نطلب الحق ونغضب له ونفاوض فيه؟