للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[عبر لمن يعتبر]

للأستاذ محمود محمد شاكر

في اليوم الخامس من أغسطس ١٩٤٧ ارتفعت مصر والسودان بقضيتها إلى مجلس الأمن تطلب النصفة من بريطانيا التي اعتدت على استقلالها واحتلت أرضها من منبع النيل إلى مصبه، ووقف رئيس وفد مصر والسودان محمود فهمي النقراشي باشا يميط اللثام عن السياسة البريطانية منذ سنة ١٨٨٢، وكان لابد له من كشف طرفاً من سوءات هذه الدولة التي قام كيانها على استعباد الشعوب وإذلالها وأهتضام حقوقها. وكان الذي كشفه شيئاً ضئيلاً إذا قيس بما كان يمكن أن يقال أو يكشف من الأساليب الخبيثة التي دأبت بريطانيا على التذرع بها إلى عدوانها الوحشي على الأمم في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر الميلادي. وكان رئيس وفد مصر والسودان يذكر الماضي ويروي عن التاريخ أصدق رواية في أعف لفظ، فأبى له أدبه أن يصف أفعال بريطانيا باللفظ الذي ينبغي أن توصف به، والذي سوف يصفها به التاريخ بعد أن تسقط هذه الدولة من عداد الدول التي يكون لها في هذه الأرض سلطان يقوم على القوة الغاشمة، والدعاية الكاذبة، وعلى التضليل والافتراء والعبث بعقول الناس.

ولم يكد النقراشي يفرغ من عرض قضية بلاده على أعضاء مجلس الأمن، حتى هب مندوب بريطانيا السير ألكسندر كادوجان يروي لمندوبي مجلس الأمن تاريخ هذا العدوان البريطاني رواية ملفقة مبتورة حشوها العبث بالتاريخ، والاستهانة بالجنس البشري، والاستخفاف بعقول الذين يسمعون روايته المدلسة عن تاريخ حقبة من الدهر يستطيع كل مندوب ممن يسمعونه أن يفتح بعدها أي كتاب من كتب التاريخ الصحيحة، فيعرف مقدار السخرية التي سخر بها هذا الرجل من سامعيه. وكان يسوق هذه الرواية المزيفة بأسلوب الواثق المطمئن بأسلوب الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولا ريب في أن السير ألكسندر كادوجان هو أول من يعلم أن الذي يقوله باطل كله، ولكنه رجل من ساسة بريطانيا - أي رجل من أعظم الممثلين الذين يجعلونك تحس أن المسرح قد انقلب تحت عينيك حقيقة واقعة.

ونحن لن نعلق على ما قاله النقراشي باشا ولا على ما قاله السير كادوجان، فالحق أبين من

<<  <  ج:
ص:  >  >>