حافظ العسكري اقتدى بالبارودي العسكري فجاء شعره قوياً
كالأمر دقيقاً كالنظام
ظهر الشعر ضعيفاً في مطلع عهد الانبعاث. فكأنه ليس بالشعر، إن هو إلا كلمات مرصوفة بعجز، لا تدل على معنى سام ولا تزخر بالقوة. وكأن أولئك النظامين يجهلون حسن الصياغة، فنفحونا بشعر مائع في معناه ومبناه، وكل ما رموا فيه إلى الاقتداء بالأقدمين. لا في سبكهم الشعر بل في مواقعهم من ولاة الأمر. فعلموا أن الأخطل كان يمدح معاوية ويزيد ويتمتع برحابة عبد الملك، وأن أبا نواس مدح الرشيد والأمين، وأن المتنبي تغنى بمآثر سيف الدولة، إذاً عليهم أن يمتدحوا الحكام والولاة. عرفوا أن الشعر يبدأ بالغزل وينتهي إلى المدح، فنهجوا هذا النهج اندفاعاً وراء البحتري والمتنبي ومهيار الديلمي ومن جرى مجراهم من شعراء العصر العباسي الأخير
وطالعوا في صفي الدين الحلي الطباق والجناس وتسخير المعنى للألفاظ، فقلدوا صفي الدين فيما أنشدوا من شعر، وما نظموا من قصائد خالية في معظمها من روعة البيان والابتكار
بلى، لقد حاول الشيخ ناصيف اليازجي الخروج عن هذه الدائرة، إلا أنه لم يكن ابن نفسه في معظم ما أنشد. فهو مدين للمتنبي في أكثر قصائده مع كونه شاعراً، على أن الشاعرية لا تنفي التقليد
وأول من برز من الشعراء الأقحاح بعد الشيخ ناصيف اليازجي هو محمود سامي البارودي، فجمع بين حسن الصياغة والمعنى. وإن يكن هذا المعنى غير مبسوط أحياناً ينحصر في نطاق معلوم، فهو خير ما جاد به علينا مطلع عصر الانبعاث. وتكفي تلك الصياغة المشرقة التي اهتدى إليها البارودي ونبذ بها الركاكة الشائعة يومذاك ليكون لهذا الشاعر فضل عميم على القريض. فالشعر العربي نهض بالاستناد إلى البارودي نهضة نشاهد آثارها في شعراء اليوم. وقد تكون نهضته نهضة ألفاظ أكثر منها نهضة معان. على