للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[محمد علي الكبير]

بمناسبة الذكرى المئوية لوفاته

كلما قلبت تاريخ هذا الرجل العظيم ثم أرسلت فكري وراء أخباره وآثاره، بدا لي الرجل عالماً من المزايا التي لا تخص بها الطبيعة غير الأفذاذ من الرجال؛ وذلك لأنمحمد علي لم يكن فرداً عادياً من هؤلاء الذين تخلقهم الظروف والمناسبات، وتحل الحضور الطارئة في حياتهم محل المواهب النادرة والطموح الذي لا يحد. . . كلا، لم يكن محمد علي واحداً من هؤلاء، ولكنه كان واحداً من أولئك الذين يفرضون أنفسهم على الظروف والمناسبات ثم لا يقيمون للحظوظ وزناً ما دام الوزن في حياتهم للبصيرة النافذة وللعزم القادر وللذكاء الوثاب لهذا كله سواء أسعف الحظأمتخلف، أقبلت الدنياأمأدبرت، ابتسمت الأيام أم لقيت جهادهم بالعبوس! وهكذا تجد العظيم كلما بحثت عن أسباب العظمة في كل ميدان تقام فيه صروح الهمم وتشيد معاقل الكفاح؛ شعلة من الأيمان بالنفس وشعلة من الأيمان بالوطن. . . ومن وهج الشعلة الأولى تكونت شخصية محمد علي وغمر ضوءها كل نفس، ومن وهج الشعلة الثانية تكونت شخصية مصر الحديثة وأمتد سلطانها إلى كل أرض، وعلى مدار الشخصيتين العظيمتين اقترنت حياة رجل في حساب التاريخ بحياة أمة!

حين وفد محمد علي إلى مصر كانت مصر مرتعاً خصيباً للفوضى التي لا يرجى معها نظام، وكانت ملجأ رحيباً للغاصب الذي لا ينتظر من جوره إصلاح، وكانت حلماً جميلاً للطامع الذي لا يؤمن لجشعه مغبة، وكانت نهباً مباحاً للجهل الجاثم على العقول وللتأخر المتخلف عن ركب الحضارة. . . ونظر الرجل العظيم إلى الماضي البعيد بفكره فاستعبر، وإلى الحاضر المشهود بعينه فأنكر، ثم تطلع بطموحه إلى المستقبل المرتقب فامتلأت نفسه بالأمل والثقة والرجاء! ماذا ينقص الأمم من وسائل الرقى لتأخذ مكانها في الطليعة؟ وماذا يعوز الشعوب من أسباب التقدم لتشق طريقها إلى الأمام؟. رسم القائد العظيم خطته قبل أن يخوض أعظم معركة في ساحات المجد؛ رسمها في صبر لا ينفد وأناة لا تيئس وجلد لا يلين. وكانت أعظم معركة وأشرف معركة: مصدر العظمة فيها أنها انتزعتأمةمن مهاوي العدم، ومنبع الشرف فيها أنها انتشلت شعباً من ظلمات الجهل، وأنتصر الرجل في المعركة الخالدة بسلاحين: سلاح العلم والمعرفة هنا وسلاح الجيش والأسطول هناك. وفي كل

<<  <  ج:
ص:  >  >>