في عمر الإنسان ساعات هي العمر، تفنى الليالي وتنقضي الأعمار وتخلد هذه الساعات في قلوب البنين. وفي تاريخ الأمم أيام هي التاريخ، تمرّ السنون مُتَحدِّرَة في دَرَك الماضي، مسرعة إلى هوة النسيان، وتبقى هذه الأيام جديدة لا تبلى، دانية لا تنأى مشرقة لا تغيب. . . وللإنسانية أيام هي ركن الإنسانية، لولاها لما قام لها بنيان، ولا ثبت لها وجود. . . أيام قد عمت بركاتها، وشملت خيراتها البشر جميعاً. . . أيام هي ينابيع الخير والحق والعدل في بيداء الزمان، وهي المفخرة لأمة أرادت الفخار، وما أكثر هذه الأيام الغرّ في تاريخنا! تلك الأيام التي أفضلنا فيها على العالم كله، وسمونا به إلى ذرى الحضارة: يوم الهجرة، وبَدْر، والقادسية، واليرموك، ونهاوند، وأيام قتيبة وابن قاسم في المشرق، وعقبة وطارق في المغرب، ومحمد الفاتح في الشمال، ويوم عين جالوت، وحطين، واليوم الأغرّ الذي أعاد لنا يوم حطين، وكان فجر اليوم الجديد للعرب بل للمسلمين أجمعين:(يوم الجلاء)!
إنه يوم مُعْلَم في موكب الزمان، إنه شَعَارَةٌ من شعائر المجد يقف عليها الفلك كلما دار دورته وقفة فيها خشوع وفيها فرح وفيها إجلال. إننا قد ابتهجنا بالجلاء وهتفنا له ورقصنا وصفقنا، وملأنا منازل العربية أنساً به وفرحاً، ولكنا لم نعرف قدر يوم الجلاء، إنما يعرفه من سيأتي بعدنا، يعرفه غداً من ينعم بظلّ هذه الشجرة التي نبتت اليوم. هنالك وقد امتدت فروعها ونمت حتى ظللَّت بلاد العربية والإسلام، يقول أبناؤنا: يا ما أكرم ذلك القضيب الطريّ الذي صار الجذع الضخم لهذه الدوحة الباسقة! وهنالك يبلغ من خطر هذا اليوم أنه سيمجد الجيل الجديد شيوخاً قد لا تكون لهم مرية إلا أنهم رأوا هذا اليوم بعيونهم، وعاشوا فيه حقيقة لا بالخيال. وسيجلس هؤلاء الشيوخ في صدور المحافل يحدثون الناس عن الذي رأوه، ويصفون كيف بدت تباشير الفجر المبارك، ليوم العروبة الجديد، وسيكون لكل حركة تحركناها اليوم وكل كلمة قلناها، معنى كبير لا نتصوره نحن الآن! سيصير هذا اليوم بتفصيلات وقائعه ودقائق أحداثه ملكاً للتاريخ الذي يقدس كل ما يدخل حماه، ويومئذ يعرف (يوم الجلاء)!