إن الإنسان مدني بفطرته ميال بطبيعته إلى تفهم نواميس الكون التي تحيط به، والوصول إلى عللها ونتائجها؛ وهو إلى جانب ذلك قلما يطمئن إلى نظم معينة، أو يستقر على حالة ثابتة. ولعل مسألة الهيئة الاجتماعية كانت أولى المسائل التي أكب على دراستها دراسة جدية لما لها من الأثر البليغ المباشر في مشاكل حياته اليومية التي يصطدم بها صباح مساء حتى لينوء بحملها. وإذا كان لا بد من نتيجة مرضية لدراسته هذه التي أعارها جزءاً من اهتمامه غير يسير، فقد انتهى إلى أن المجتمع يرتكز على نظم واهية لا تماشي البيئة في سرعة تضخمها، ولا الأحوال في استمرار تطورها، فجاءت هذه النتيجة حدثاً جديداً بل صدمة عنيفة ألقت الرعب في قلوب الكثيرين من علماء الاجتماع الذين انقسموا إزاءها إلى ثلاث فرق رئيسية لكل منها في الأمر وجه نظر خاصة لا تقرها الفرقتان الأخريان وهي:(١) فرقة المتشائمين (٢) فرقة المحايدين (٣) فرقة المتفائلين
فالفرقة الأولى: هم الذين تسرب إليهم اليأس من الإصلاح فالقوا حبل الأمور على غاربها وانكفئوا على أنفسهم يتوقعون انطلاق رصاصة الدمار الأخيرة التي لا يستطيعون لدرئها سبيلا فمنهم من مال إلى الزهد من عقيدة دينية واكتفى من العيش باليسير؛ ومنهم من لزم عقر بيته يصابح الفجر بنكده ويشحن الزمن بزفرات بؤسه
والفرقة الثانية: وهم سواد المجتمع الأعظم، فقد شغلتهم أعمالهم الشخصية وسعادتهم الوقتية التي راحوا يهتبلون لها السوانح كلما طرأت - عن التفرغ لدراسة أحوال المجتمع، ووقفوا من تقلب أوضاعه واضطراعها موقف المتفرج في حومة القتال لا يبدون رأياً، ولا يدفعون عادية، ولا يقرون أمراً
أما الفرقة الثالثة فهم الذين هالهم ما رأوه في جوف هذه النظم والأوضاع من البؤس المسرع إليهم، فأحدث هذا المنظر في نفوسهم آثاراً شتى ليست على مستوى واحد من العمق والتأثير، ولذلك هبوا من غفوتهم واستيقظوا من رقدتهم مشمرين للأمر ليدفعوا عن البشرية عدوانه وليسدوا ثلمة الشقاء قبل أن تتسع، فمنهم من استل سيفه وقام بحركة إصلاح عنيفة، كما حدث في روسيا الشيوعية وإيطاليا الفاشية. ومنهم من لزم حد الاعتدال