للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أثر الثقافة العربية في العلم والعالم]

بقلم أحمد حسن الزيات

٣

لم يشهد الشرق فاتحا قبل العرب يفتح البلدان والأذهان ويستعمر

الألسنة والأفئدة في وقت معا. فاليونان والرومان غزوه بالسيف

والحضارة والعلم، ولبثوا الحقب الطوال يمكنون لأنفسهم فيه، ويطبعون

آثارهم في أكثر نواحيه، حتى إذا وهنت اليد القوية، وأمكن من يده

السلطان الغريب، تنكرت المعارف وعفت الآثار.

وكان ما كان من ملك ومن ملك ... ثم انقضى فكأن القوم ما كانوا!

ولكن العرب تدول دولتهم وتزول صولتهم ويعمل الفاتح الغشوم في رجالهم السيف، وفي آثارهم النار، حتى إذا ظن انه ملك، وان عدوه هلك، إذا بالعرب يقولون له في كل مكان وفي كل إنسان؛ أنا هنا! وإذا بالمغير المزهو يستسلم لهذه القوة الخفية فتحتل خواطره ومشاعره وكيانه، ثم ينقلب على الرغم منه داعيا لخلافتها ناشرا لثقافتها! فهل رأى التاريخ مثيلا لهذه الأمة التي حكمت الناس ظاهرة ومضمرة؟ وهل رأى التاريخ ضريباً لهذا الشعب الذي طبع قسما كبيرا من الدنيا بطابعه منذ ثلاثة عشر قرنا ثم لا يزال هذا الطابع على رغم العوادي جلي السمات واضح الدلالة؟ فسلطان العرب على العالم قد زال منذ قرون، ولكن ثقافتهم ما تنفك قائمة في الشرق الإسلامي حتى اليوم! ومن الشبيه باللغو أن نفصل أثر هذه الثقافة في أفريقيا وآسيا، فان من خضع للعرب من شعوب هاتين القارتين قد انقطع ما بينهم وبين أسلافهم من صلات اللغة والأدب والعقائد والتقاليد، فأصبحوا لا يتكلمون ولا يفكرون ولا يعتقدون ولا يعيشون إلا بما للعرب من جميع ذلك. وذو الحيوية القوية منهم كالفرس استطاع بعد حين أن يجمع فلول لغته من يد البلى فأعادها إلى الحياة بعد ما اقتبس لها من الألفاظ العربية ما يشارف الستين في كل مائة، فضلا عن استمداده من العربية الروح والحرارة والبلاغة والخط. ومع ذلك ظل الفرس ومن فعل فعلهم يستعملون العربية إلى وقت قريب في التأليف والتعليم والأدب كما كان الأوربيون في

<<  <  ج:
ص:  >  >>