في هذا الوقت العصيب الذي يفرق الله فيه بين عهد وعهد، وبين نظام ونظام، تعود ذكرى الهجرة النبوية التي فرق الله بها بين الشرك والوحدانية، وبين الحيوانية والإنسانية، فتكون للقلوب المؤمنة هدى يزيل الضلال، وأملا يذهب اليأس
وذكرى الهجرة هي ذكرى ما لقيت دعوة الحق من كيد الباطل، وما أدركت بالصدق والصبر من نصر الله؛ إذ لم تكد تشرق من غار حراء حتى استخفت في دار الأرقم، ثم لجأت إلى غار ثور وقد طاردها الظلم من كل سبيل، وهاجمها الكفر من كل جانب. وهناك أراد الله سبحانه وتعالى أن تدرك قدرته كلمته فطمس عين الباطل فلم ير، وزلزل قدم الشرك فلم يلحق، ومكن لرسالته أن تشرق في الأبصار والبصائر، فاهتدى من حار ورشد من غوى وقوى من ضعف وعز من ذل. ذلك لأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وقد (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً). ثم صدقهم الله وعده، فجعلهم وراثاً للأرض، وخلفاء على الناس، ووطد لدولتهم الملك، وأسعد بمدنيتهم العالم، حتى نسوا الله فأنساهم أنفسهم، واستجرّوا للهوى فأخضعهم لغيرهم، وتركوا الجادة وسلكوا البينات فضلوا آثار السلف، وغفلوا عن تطور الزمان، وقصروا في اتخاذ العدة، حتى تمزقت وحدتهم، وضاعت هيبتهم، وأصبحوا أتباعاً وأوزاعاً، يقضي عليهم ولا يقضون، ويمضي لهم ولا يمضون
(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون)؟
لقد تحدث بعض الذين مكنتهم القوة المادية من السلطان عن نظام جديد للعالم يكفل له السلام والعدل؛ ومثل هذا النظام لا يمكن أن يقوم إلا على أساس الدين؛ فقد دلت تجارب