قرأنا بإعجاب في الرسالة الغراء ما كتبتموه، وما سطره أساتذة الأدب العربي في الثورة على الأخلاق، فأكبرنا فيكم نزعتكم إلى تأييد الفضيلة بهذا الأسلوب. وقد لاحظت بجوار ذلك غياباً نسبياً للفهم الفلسفي في ذلك الحوار الأدبي، مع أن الموضوع يمت إلى صميم الفلسفة بصلة وصلات. لهذا دعاني الواجب الفلسفي أن أحرر هذه الكلمة لعلها تلقي بعض الضوء من هذه الناحية على هذا الموضوع:
فهم بعض الناس في مصر الثورة أنها النزاع بين وجهتي نظر متناقضتين؛ فهناك أنصار القديم، وهناك المجددون؛ وهناك رجال الدين، وهناك (المستغربون)؛ وهناك أصحاب الفضيلة، وهناك (المسترذلون). نزعة (التثنية) هذه في تصور الشيء وضده، هي نزعة (حربية) لا تليق بطبيعة التفكير جرتها علينا من بعيد الحضارة الفارسية التي يسودها مذهب زرادشت في كتابه الأفستا الذي يقول بتنازع قوة الشر (أهرمن) وقوة الخير (أهورا). وكذلك جرتها علينا - فيما أرجح - من قريب مبادئ الثورة الفرنسية في تصور معنى الحرية والاستقلال؛ فهناك ابن الوطن من ناحية، وهناك الملك من ناحية أخرى؛ ذلك لأن التفكير في ذاته وسيلة سلمية هادئة لخلق (التماسك) في عقلية الفرد، وخلق التماسك في عقلية المجتمع؛ وهذا التماسك هو الانتقال من حالة نوعية إلى حالة من نفس النوع يجوز لها التخصيص. فكل ثورة هي نهاية ظاهرة لحالة تطور هادئ سبقته، وتضمنت هذه الثورة؛ فهي إذاً حاضر لماضي سبق قد مهد لها، وهي حاضر كذلك لمستقبل يأتي، تمهد هي له الثورة في نظر الفيلسوف الألماني شيلنج لا يمكن أن تنفصل عن التطور وعناصره الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل. (التطور هنا لا يقصد به نظرية داروين وسبنسر التي أثبت خطأها أستاذنا الفيلسوف لالاند في كتابه: (خداع التطور) وإنما التطور الذي نزل من فلسفة أفلاطون وقالت به المدرسة الألمانية الحديثة وخاصة هيجل وشيلنج وهو التطور المنطقي لمظاهر التاريخ عامة). فالثورة بهذا الفهم هي عنصر أكيد للسلام والتقدم.