تسارعت الأيام في سيرها الآلي المنظم السريع. الأيام الطويلة المملة، والأيام القصيرة الطائرة، كلها غرقت في بحر الفناء على ألا تعود. وانقضى العام فإذا الذكرى تتهادى حتى تقف أمامي، ثم تمد يدها لتأتي بأجزائهاالمنزوية في مخيلتي تستكمل بها صورتها المؤلمة. فإذا الصورة هي هي كما كانت منذ عام، وإذا الألم لها وان خففه سلطان الزمان الذي لا يقهر، إلا انه ما زال لاذعاً مذهلا عن كل شئ سواه.
كان صباح العيد منذ عام، فاجتمع أفراد الأسرة كلهم في بيت الوالدين، اجتمع الأخوات والاخوة، والأزواج والأولاد والأخوال والأعمام، واصطفوا جميعا على مائدة الإفطار، وكلهم وجوههم مشرقة مستبشرة. وكانت هي بينهم - ومتى لم تكن بينهم ولو بجسدها - ولكنها كانت تفكر وتقدر. تضحك معهم وتبتسم لابتسامهم، ويشرق وجهها لإشراق وجوههم: ولكن نفسها كانت تتألم يائسة، وعقلها مرتبك، يقدر ويفكر، ويقرر وينثني عما قرر، ثم يعود فيقرر ثانية، فإذا القرار هو هو. وتقلب الاحتمالات والمنتظرات، تستعرض في خيالها الساعات المقبلة، وقد نظمتها حسبما ظنت ان ستكون. ماذا لو نفذت قرارها؟ ثم تعود فتنثني عنه من جديد؛ لم يرقها ما قدرت، ولكن أي مخلص غيره؟ وأخيراً، لا بد من القرار الأول، لابد منه.
لم يلاحظ عليها الحضور شيئاً، فقد كانت الحركة التي تأتيها في رواحها ومجيئها لخدمتهم - لان أمور المنزل أصبحت كلها لها بعد زواج أختها - التي كانت تساعدها كثيراً على إخفاء ما بها. وانتهى الإفطار فانتشروا في الدار، وأصوات الأطفال المرحة الصاخبة تملأ إسماعهم. وانتهزت هي الفرصة وصعدت إلى حجرتها. خافت أن تعود إلى التفكير فترتبك من جديد، ولقد سئمت الحيرة ولا بد ان تنجو منها، لقد كانت تلهب رأسها.
وصعدت وراءها أختها تناديها، ونادتها فإذا بها قادمة نحوها تصرخ وتتأوه، ووجهها اغبر قاتم، وجسمها يتلوى من الألم، ويداها على معدتها تضغطان بعصبية وتقلص، فصاحت أختها ما بك! ما بك؟ وضمتها إلى صدرها تسندها من الوقوع فوقعتا على الدرج معا. وهزتها ثانية ما بك؟ فتمتمت بصعوبة مريرة متألمة (شربت سما).