درج الناس في القرية على أن يستقبلوا صباح اليوم الأول من العيد في المقبرة، فيزوروا الأموات قبل الأحياء، ويضعوا على قبورهم أكاليل الزهر، وفروع النخيل، وباقات الورد، ويواسي بعضهم بعضاً، ويخفف الخلي مصاب الشجي، ويجفف القريب دمع القريب. . . وذهبت صباحاً مع القوم، وبدأت بزيارة ذوي القربى والأصحاب، أقرأ للجميع آيات من القرآن، وأستلهم الله لهم الرحمة والرضوان، وما لبثت أن فوجئت - خلال تطوافي - بصيوان كبير فوق ضريح أبيض قد ازدان بالأقمشة الحريرية الزاهية والورود، كأنه عروس مجلوة ليلة الزفاف وقد تدلت على صدرها أجمل العقود، وكما يزدان رأس العروس ووجهها بالأصباغ والعطور، قد أفعم رأس هذا القبر بأوراق الآس وأكمام الزهور، فوقفت - من بعيد - أنظر إلى هذا القبر، وقد استهواني ما فيه من بهرج وزينة، ألهاني عما يعاني ذووه من حزن ولوعة، فسألت صاحبي عن أهل هذا الميت، ولم يخامرني ريب في أنها (عروس تزف إلى قبرها)، وقد أقام لها أهلها وزوجها المفجوع هذا المأتم الحافل، وهذا الزفاف الباكي. . . أو خيل إلي أن هذا صنيع حبيب رزئ قبل العيد بحبيبته. . . أنس نفسه، وروح فؤاده. . . فدعاه الهوى - والهوى ذو أعاجيب - إلى ما أرى من عناية وتكريم، ولم يفته أن يهدي إلى القب - برهاناً على وفائه وصدق حبه - أجمل الورود وأشذى العطور، إذ فاته أن يضع بين يدي حبيبته أزهى الثياب وأروع الحلي. . . وكادت عيني تبض بقطرات من الدمع، حزناً وأسى، لولا أن صاحبي أخذ بيدي قائلاً: هلم نزور هذا الضريح ونواسي هؤلاء المحزونين! وانحدرت معه إلى الصيوان، فرأيت - على جوانبه - نسوة نائحات، ورجالا باكين، ولفت نظري أن الجمع - وكان كثيراً - كان يبكي بحرقة لاعجة وحزن شديد. . . وليسوا كلهم أهلا للميت أو إخواناً له، فاعتراني خشوع ملك علي نفسي، وهز ما بين جوانحي، فعالجت دمعي فلم يذرف، فجلست ساكتاً مطرق