للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

الوالد

للكاتب القصصي جي دو موباسان

جان دوفالنوا صاحب لي لا أفتأ أزوره الفينة بعد الفينة. وهو يقيم في قصر له على ضفة جدول في بعض الغياض، وقد لاذ بهذا الكن بعد أن قصف وترف في باريس خمسة عشر عاماً سوية. وقد عرته بغتة ملالة من كل ما في هذه المدينة من مناعم ومآدب ورجال ونساء وملاعب، وجاء يعتزل في هذه الدار التي فيها ولد وفيها نشأ.

ونمضي إليه اثنين أو ثلاثة من الصحب نقضي معه أسابيع معدودات، ولقد كان سروره بنا إذ يلقانا بعد نأي، بالغاً شديداً، وابتهاجه باسترجاع ما أفلت منه من حبور بعزلته إذ نتولى عنه جماً وفيراً.

ولقد وفدت عليه في الأسبوع الماضي فهش وبش. وكنا نقطع الساعات تارة جميعاً وتارة منفردين، والعادة أن يقرأ هو واشتغل أنا بالنهار، وحين تأخذ عين الشمس في الإغتماض نقبل على السمر إلى أنصاف الليل.

وكنا في يوم الثلاثاء الماضي، وكان يوماً حروراً متلظياً، قد جلسنا في جنح ليله نتأمل جريان الماء في الجدول تحت أقدامنا، وكنا نتساجل ما يتوارد علينا من أفكار شديدة الغموض عن النجوم الخائضة في الماء وكأنها بين أيدينا تمرح سبحاً. كنا نتناقل ما تتمخض به أذهاننا من خواطر كثر غموضها واشتد اختلاطها وأفحش إيجازها، ذلك أن عقولنا شديد قصورها، مستفحل ضعفها. بالغ عجزها. أما أنا فقد كنت مشفقاً على الشمس المتوارية في الحجب لدى الطفل، كنا نفكر في هذه الكائنات المبثوثة في هذه العوالم، ومختلف أشكالها العجيبة التي يتقاصر دونها وهم الإنسان، وخواصها التي لا تدرك كنهها الفطن، وأعضائها الخفية المحجوبة. والحيوان والنبات وكافة الأجناس وسائر الجواهر وشتى المواد، مما لا تكاد ترتفع إليه أذهان الإنسان.

وبينما نحن كذلك إذا بصوت على بعد يصيح:

- سيدي، سيدي:

فقال جان:

<<  <  ج:
ص:  >  >>