للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[١٤ - دفاع عن البلاغة]

٦ - الأسلوب

سمع ابن هرمة أديباً ينشد قوله:

بالله ربك إن دخلت فقل لها ... هذا ابن هرمة (قائماً) بالباب

فقال له: لم أقل (قائماً). أكنت أتصدق؟ قال: قاعداً؟ فقال: أكنت أبول؟ قال: فماذا؟ قال: واقفاً. وليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى!

ذلك مثال من أمثلة كثيرة تريك كيف يميز الفنان اللفظ ويختاره. وتمييز اللفظ واختياره شديدان على من لم يؤته الله العلم بمعاني الألفاظ، والبصر بفروق المعاني. ولم يقع صاغة الكلام في الهرج والزيف إلا بمجافاة الذوق ومخالفة اللغة. فإن اللفظة الحوشية أو السوقية أو الطفيلية أو النابية أو الركيكة أو المبهمة أو العليلة لا تسقط في الكلام إلا إذا كان العلم الذي يميز قد فقد، والذوق الذي يختار قد فسد. إذاً تكون الكلمة التي انتخبت بذوق، واستعملت بحذق، هي الكلمة الضرورية الطبيعية التي تتحقق بها خصوصية اللفظ وهي الركن الأول لأصالة الأسلوب. أما الركن الآخر وهو طرافة العبارة فأسه الابتكار في حكاية الخبر وتصوير الفكر وتقويم الموضوع. وهيهات أن تجد الجملة المبتكرة التي تثير الإعجاب، وتحدث الأثر، وتحرك الفتنة، إلا إذا وجدت الكلمة الخاصة التي تحدد الفروق، وتجد العلاقة، وتبعث الحركة. والأسلوب كما قلت من قبل خلق مستمر: خلق للفكر بطرافته، وخلق للترتيب بتنسيقه وتشويقه، وخلق للأداء بألفاظه ولهجاته وصوره. وعلى قدر ما يتضح الخلق في الكتابة، تتضح العظمة في الكاتب. أما القوالب الموضوعة والرواسم المصنوعة فقد كانت في ما مضى قطعاً من أعصاب الذين صاغوها، ثم قطعت بهم وبها أسباب الحياة فضمنتهم القبور وضمنتها الكتب. فكما لا ينفعك أن تستعير أعضاءهم لجسدك، لا ينفعك أن تستعير تراكيبهم لأسلوبك. ولكن أدعياء الكتابة يعيشون على هذه الرواسم كما يعيش أدعياء التصوير على نقل الروائع الفنية باليد، أو تصويرها بالآلة. وكثيراً ما يسرفون على أنفسهم فينتحلون القصيدة بنصها أو المقالة بلفظها. ولا أزال أذكر صعقة الأستاذ إبراهيم. . . وقد دعي ذات ليلة إلى حفلة زفاف. وأبى ولاؤه للعريس ووفاؤه للفن إلا أن يسجل اسمه بين خطباء العرس. وذهب إلى كتاب (أبدع الأساليب، في

<<  <  ج:
ص:  >  >>