إنشاء الخطب والمكاتيب) فحفظ منه خطبة رنانة فيها السجع المرصع، وفيها الشعر البديع. ثم أخذ مكانه المرموق فوق المنصة. وتعاقب الخطباء والشعراء على المنبر المزدان بالرايات والثريات والرياحين. حتى إذا لم يبقى بينه وبين الكلام غير خطيب واحد، تبحبح وتنحنح، ثم تجهز وتحفز؛ ولكنه لم يكد يصغي إلى الخطيب الذي قام قبله حتى حملق إليه وقد انتسف لونه، وانفغر فمه، وارفض عرقه، وتمنى لو ساخت به الأرض! لقد كان الخطيب السباق قد اقتنى الكتاب نفسه، وانتقى الخطبة عينها، ثم سبق الأستاذ إبراهيم إلى القول فانطلق يلقيها عن ظهر الغيب لا يتلعثم ولا يتوقف ولا يخرم منها حرفاً! وبينما كان المنبر يهدر بالأسجاع، والسرادق يدوي بالتصفيق، والبيت يلعلع بالزغاريد، كان الأستاذ إبراهيم قد أخذ بطنه بيديه، ومشى مشية الشيخ الأحدب، يتأوه ويتلوى ويسأل الذين فجئهم بهذه الوعكة الغريبة عن بيت (الأدب)!
ثم نعود فنقول إن الأصالة هي الكلمة الخاصة والعبارة الجديدة. وبخصوصية الكلمة وجدة العبارة تتحقق الطبيعة في الأسلوب. وليست الطبيعة أن ترسل الكلام على سجيتك من غير روية ولا تنقيح، إنما الطبيعة نتيجة النظر الطويل والجهد المتصل. فهي على الرغم من اسمها تكسب ولا توهب وشرطها الذي لابد منه أن يختفي فيها الفن كما تختفي دودة القز في الشرنقة فإن من الفن ألا يظهر الفن، كما قال شيشرون. ومن اختفاء الجهد البالغ في سراح الطبع، وكمون الصنع الدقيق في سهولة العبارة ينشأ ما يسمونه بالسهل الممتنع والأصل فيه قول ابن المقفع لمن سأله عن البلاغة:(هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها، فإذا حاول عجز)
ومن كلام بسكال أنك (تقرأ الأسلوب المطبوع فتعجب منه وتعجب به، لأنك تتوقع أن تجد فيه الفنان، فإذا بك لا تجد إلا الإنسان)
ومن الطبيعة بمعناها الفني تكون الدقة. وما الدقة إلا ترك فضول الكلمة وتوخي صواب اللفظ. وهي تختلف في أسلوب الشاعر والخطيب عنها في أسلوب الفيلسوف والمؤرخ. ولكن القدر المشترك منها في أساليب هؤلاء هو أن يعرف كل منهم كيف يمضي قدماً إلى الغاية. وكل ما يجعل الفكرة نيرة مؤثرة، والصورة حية قوية، والعاطفة أخاذة نفاذة، هو في الحقيقة داخل في القدر المشترك لكل كاتب