القضاء في أمة من الأمم مظهر من مظاهر تقدمها. ولقد قال لينبول في معرض كلامه عن القضاء في مصر الإسلامية:(إن هذه الروح الاستقلالية عند القاضي الذي كان يُضرَبُ بالسياط إذا ما خالف الأوامر العالية كانت رمزاً لما كان يعامل به غيرُه ممن هم في مرتبته وفي مركزه. ولقد ساد الظلم في هذا العصر وتفشت الرشوة في سائر الأعمال الإدارية، ودخلت البلاد تحت حكم طائفة من الولاة وعمال الخراج ممن جمعوا الأموال كرهاً وعسفاً في عصر لم يكن القاضي ليؤتمن فيه على الشريعة الغراء. هذا فضلا عما كان هنالك من رشوة متفشية وتهديدات مصوبة إلى هذا القاضي
(وربما كانت الشريعة الإسلامية محدودة المادة، وقد يكون القاضي متطرفاً في اعتقاده. غير أنه كان على الأقل على نصيب من العلم والمعرفة، وله خبرة اكتسبها من اشتغاله بالتشريع الإسلامي، كما أنه اشتهر لدى الجمهور بالاستقامة وسمو الخلق، ولما كان لمركزه من أهمية ولشخصه من كبير نفوذ لم يكن يجري عليه ما كان يجري على غيره من العمال، بل ظل القاضي في كثير من الأحيان يشغل منصبه في عهد ولاة عدة، بل كثيراً ما أعيد إلى منصبه إذا ما تولى الحكم أو وال جديد
(ولم يكن هناك أسرع من القاضي في تقديم الاستقالة إذا تدخل في أحكامه الشرعية متدخل. وقد بلغ من محبة الناس للقضاة أن أصبح الولاة يفكرون ملياً إذا حدثتهم أنفسهم بالإقدام على عزلهم حتى لا يعرضوا أنفسهم لكراهة الجمهور التي قد يجرها إليهم أي تدخل من جانبهم في السلطة القضائية. وفي الحق لم يعدَ الوالي في العصر العباسي يملك سلطة عزل القضاة. ويظهر أن تعيين القضاة أصبح منذ أيام أبن لهيعة (١٥٥ - ١٦٤هـ) تصدر به المراسيم من بغداد عادة، كما غدت مسألة تحديد الراتب ودفعه موكولة إلى الخليفة نفسه)
وهذه العبارة التي ذكرها لينبول في جملتها بمثابة وصف موجز لحالة القضاء في هذا العصر. على أنه بالرغم من ذلك فقد أتى بعض قضاء هذا العصر بضروب من الإصلاح بارزة، فعرف توبة أبن نمر الحضرمي (١١٥ - ١٢٠هـ) بالاستقامة، وكان يهيب إخوانه