مضت خمسة أعوام على هجرة النبي العربي (عليه السلام) إلى المدينة قبل أن تهدأ ثائرة قريش أو تفتر عن مخاصمته ومهاجمته: وأنفق النبي هذه الأعوام الخمسة على أهبة الدفاع يرد محاولات قريش لغزو معقله وملاذ دعوته، أولاً في بدر ثم في أحد ثم في موقعة الخندق. فلما وهنت قوى قريش بعد الخندق، استطاع النبي أن يعني بالتفكير في العمل الإيجابي لمغالبة خصومه وبث دعوته. ولم تكن الدعوة الإسلامية قد تجاوزت يومئذ وديان مكة والمدينة؛ ولم تثبت دعائمها إلا في المدينة بين عصبة المهاجرين والأنصار؛ ولم يك ثمة ما ينبئ بأن هذه البداية الضئيلة إنما هي الحجر الأول في صرح الدولة الإسلامية العظيمة التي قامت بعد ذلك بعشرين عاماً فقط على أنقاض دولتين من أعظم دول التاريخ هما الدولة الفارسية والدولة الرومانية الشرقية. وكان فشل قريش في موقعة الخندق حاسماً في تطور هذه الخصومة التي أضرمت قريش لظاها مذ أذاع النبي رسالته. ومنذ الخندق استطاع الإسلام أن يفتتح غزواته للأمم والأديان القديمة؛ ففي أواخر العام الخامس وأوائل العام السادس للهجرة قام النبي بعدة غزوات محلية لبعض القبائل والبطون المعادية وفي أواخر العام السادس نظم النبي بعوثه أو سفاراته لأكابر الملوك والأمراء المعاصرين. وفي العام الثامن كان فتح مكة وخضوع قريش؛ وكان ظفر الإسلام حيثما استهل رسالته وانبعثت أشعته الأولى
وكانت السفارات النبوية بين حوادث هذا العهد حادثاً فريداً؛ وكانت دليلاً جديداً على ما تجيش به نفس الرسول العربي من سمو في الشجاعة وقوة في الإيمان برسالته. ولم يكن الإسلام يومئذ قوة يُخشى بأسها فيدعو قيصر وكسرى إلى اعتناق دعوته؛ ولكن محمدا أرسل للبشر كافة بشيرا ونذيرا. وكما كانت الغزوات النبوية المتواضعة سبيلا للذود عن الإسلام ووسيلة لتأييد كلمة، فكذلك كانت السفارات النبوية سبيلا لأداء رسالته وإبلاغ صوته إلى الملوك والأمراء الذين يحكمون العالم القديم يومئذ. ففي شهر ذي الحجة سنة ست من الهجرة (إبريل سنة ٦٢٨م) بعث النبي كتبه وسفراءه إلى ثمانية من أولئك الملوك والأمراء هم قيصر قسطنطينية، وقيروس حاكم مصر الروماني، والحارث بن أبي شمر