لا نستطيع أن ننكر ما للرصافي من أثر كبير في نهضة الشعر الحديثة في العراق وما لصوته من الصدى المدوي في دنيا العرب، فقد حمل قيثارة الشعر يداعب أوتارها المتنوعة ويرتل عليها أنغامه المختلفة هاتفاً بمجد أمته منادياً بوحدتها واستقلالها داعياً لتخفيف آلام الإنسانية المعذبة الحائرة في بيداء الحياة.
كانت أنغام الرصافي تنبعث من أعماق القلب حيناً ومن آفاق العقل حيناً آخر؛ فهو حين يندمج بالحياة الاجتماعية ويواكبها في ساعات الألم ولحظات الهدوء ويستوحي عاطفته وإحساسه فتستجيب له العاطفة ويواتيه الإحساس فيترجم تلك الانفعالات نغماً حزيناً باكياً ولحناً مرح المقاطع هادئ النبرات، وحين يخلو إلى الطبيعة في عزلة من صخب المجتمع وضوضاء البشر يستلهم عقله وتفكيره ويعرج إلى آفاق السماء فيصف الكون وما فيه من صور وأعاجيب ونجوم وأفلاك، ويهبط إلى الطبيعة من حوله فيتحسس جمالها ومنابعها وما فيها من فنون وروعة ويتمتم ويتغنى ويفصح عن خلجات وجدانه بما يواتيه من تعبير وأداء.
كان الرصافي عاطفياً حساساً حين ينظم في السياسة والاجتماع، وحين يتغزل ويمدح أو حين تصفو له الأجواء لحظة من لحظات العمر. وكان وجدانياً حين يصف الطبيعة وما فيها من مباهج وصور ومنابت وأطيار وجداول ومروج، أو حين يصف حريقاً أو مخترعاً جديداً. وكان فيلسوفاً حين يتجرد إلى عقله وتأملاته الكونية، ولكنه في الثانية والثالثة يخاتل حياته ويخالس طبيعته فلم يؤلف من وصفه وفلسفته ما يناهض تيار العاطفة وتموجات الإحساس فقد خلق الرصافي عاطفي النبع يتحدث إلى قلبه ويتحدث قلبه إلى موسيقاه ومن ثم تعبر هذه الموسيقى عن خواطر وأحاسيس تمثل روح الشاعر وقلبه وما في هذه الروح وهذا القلب من صور حية نابضة بالحركة والألوان.
ويجب أن نحدد مسارب هذه العاطفة عند الشاعر ونسير معها إلى ينبوعها الأكبر لنضيق دائرة البحث في مركز واحد.