للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إن عاطفة الرصافي تستمد صورها من السياسة والاجتماع والغزل والمدح وما يشبه هذه الألوان. ولكن الينبوع الأكبر لعاطفة الشاعر هو السياسة والمجتمع إذ فيهما تبدو هذه العاطفة جلية واضحة وتكثر صورها الشعرية. أما موطن هذه العاطفة في أكبر ينابيعها فهو ذلك القلب الذي تفتح في دنيا كثيرة الصخب قائمة لآفاق عارمة الزوابع، دنيا تعبث بها سياسة قاسية هوجاء ومسلطون جائرون فلا عدل ولا إصلاح ولا علم ولا حرية؛ فقر وحرمان، وظلم واستهتار، وخضوع وذل، ووشاية ورشوة، وسجون ومعاقل، وشباب يقدمون قرابين على مذابح الشهوات، وسياط تتخضب بدماء المتون والظهور في المدن والقرى، وطبقات لا يؤلف بينها منهج ولا نظام. تلك هي دنيا العراق حين أطل عليها الرصافي فكان من البديهي أن يتأثر ذلك القلب ويتألم ويعبر عن تأثره وألمه بعد أن اكتملت الأداة عند صاحبه وطاوعته الموسيقى اللفظية أحسن مطاوعة. وهكذا ثار الرصافي وندد بالسلطان والولاة ووصف السجون وما فيها من ظلام وتعذيب، ودافع عن المرأة والعامل والفلاح.

وإذ نحن بصدد البحث هنا في شعر الرصافي الذي نظمه أيام الاستبداد العثماني وحين عودة الدستور فلا يسعنا إلا أن نقصر البحث على ما نحن بصدده تاركين الألوان الأخر إلى فرصة ثانية.

لاشك أن الرصافي مر في أدوار عدة من تاريخه السياسي أو مرت به أدوار سياسية متعددة مختلفة فقد نشأ النشأة الأولى في بغداد وهو محدود الفكر ضيق الشعور لا يعبر إلا عما تقع عليه عينه في بغداد وما حواليها ولا يتأثر إلا بما يسمع من الأحاديث ويقرأ من الصحف والمجلات وهي قليلة في ذلك الوقت. ثم طاف بالبلاد العربية وبخاصة سوريا وفلسطين، وسافر إلى تركيا وشاهد مواطن البذخ والترف على البسفور والدردنيل فأثرت في نفسه تلك الفوارق الاجتماعية بين رعايا مغرقين في تيار الذل والحرمان وبين أسياد يعيشون في أبراج الذهب والحرير، بين رعايا مكبلين بالحديد والأغلال وحكام تتمرغ أنوفهم بعطر الحياة وتدوس أقدامهم أشلاء العبيد الصاغرين فإذا الرصافي يثور على الظلم والاستبداد، وإذا بهذه العاطفة التي كانت حبيسة في أفق ضيق محدود قد تغيرت وتبلورت بهذا الأفق الرحب ومشت في ركاب الحياة الواقعية الصريحة تندد بالخليفة الجائر والولاة المستبدين

<<  <  ج:
ص:  >  >>