للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وتنفخ روح الثورة في الجماهير المظلومة الصاغرة. ثم جاء دور الأحرار ودعاة الدستور فاتصل بهم الرصافي وشاركهم في شعورهم وأيدهم في مواقفهم حتى إذا أعيد الدستور تلقاه فرحاً مستبشراً وحياه بأكثر من قصيدة ومجد زعماءه وأنصاره. حتى إذا كانت نهاية الأتراك على يد الاحتلال الإنكليزي في الحرب العالمية الأولى أخذت عاطفة الرصافي تموج وتضطرب وتثور ولا تستقر لأنها أحست بلفحة النار تسري في الوطن العراقي الجريح، وتتمشى في الأفق العربي الداكن، وتتمدد في البلاد الإسلامية المنكوبة؛ فمن حق الرصافي أن يثور ويضطرب حين وجد الحياة داكنة مدلهمة تعصف بها الزوابع والأعاصير من كل جانب وتعبث بها السياسة العثمانية الجائرة. ومن حق الرصافي أن يهدأ ويطمئن حين عاد الدستور فعادت الحرية إلى طلابها وشداتها. ومن حقه أن يعود إلى ثورته وجيشانه حين جاء الإنجليز فاتحين مستعمرين وظلوا فاتحين مستعمرين يعدون ولا يفون، ويأخذون ولا يعطون، ويشاركون في كل رأي ويتدخلون في كل أمر وفي كل مرفق. فكان بديهيا أن يقف الرصافي منهم موقف الساخط الثائر، وكان بديهيا أن يحن إلى الأتراك وقد ذاق حلوهم كما ذاق مرهم ولم يجد من الإنجليز ما ينسيه عهدهم. وهذا هو السر الذي جعل الرصافي يعيش أواخر عمره وقد سدت عليه منافذ الحياة وضاقت دونه مسارب العيش إلى أن ودع الحياة بين خصوم يتهمونه بالنزعة التركية والتمرد على بعض العادات، وبين أصدقاء معجبين فهموا شعره وقدروا فيه عاطفة الشاعر العميق الإحساس الذي يملي أفكاره ونزعاته ولا تملي عليه الأفكار والنزعات.

إن خصوم الرصافي يأخذون عليه تودده للأتراك في بعض المناسبات ومدحه لبعض ملوكهم وولاتهم ودفاعه عنهم في بعض حروبهم، وبكاءه عليهم حين تقلص ظلهم من العراق إلى جانب ثورته عليهم. ثم مواقفه التي لا ترضي بعض الحكام في تاريخ العراق الجديد وقد فات هؤلاء الخصوم أن عاطفة الشاعر - كأي شاعر أصيل النبع - لا يمكن أن تستقر على حال أو تجنح إلى شاطئ واحد بل هي متنقلة متحولة من الشمس إلى الظل ومن الجبال إلى السهول كالطائر الذي لا تسع جناحيه الآفاق ولا يستقيم له وكر.

إن الشاعر العاطفي الحساس قد ينظر إلى الحياة والأشخاص وما حوله من الصور والألوان نظرة تختلف عن غيره من سائر الناس فقد يحس باللذة في موطن الألم، وبالجمال في

<<  <  ج:
ص:  >  >>