كنت أسمع من أبي والأشياخ من أهلي أه كان في بلدنا - فيما كان فيها من أوقاف كثيرة - وقف على المشتغلين بالعلم والمنقطعين إليه، يفتحون لهم بريعه المدارس الواسعة، ويعدون لهم الغرف المفروشة، ويهيئون لهم فيها المكتبات القيمة، ويقيمون لهم الخدم ويقدمون إليهم كل ما يحتاجون إليه من طعام وشراب وحلية ومتاع، ويفرغون قلوبهم من كل هم إلا هم الدرس والبحث، فكان الناس يرغبون في العلم، ويقبلون عليه ويبرزون فيه. .
. . . ثم ذهب ذلك كله بذهاب أهله، وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الأوقاف، وأكلوا أموالها، فتهدمت هذه المدارس، وأمست خرائب وأطلالاً، ثم سرقها الناس فحولوها بيوتاً، وطمسوا آثارها. . .
فأعرض الناس عن العلم وزهدوا فيه، فقلنا: لا بأس، إنها قد تتحول تلك الدارس إلى دور عجزة، وقد تصير أحياناً ملجأ كسالى، ومأوى عاطلين، وعندنا المدارس الجديدة، تسير على منهج مقرر، ونظام معروف، وطريق واضح، فما نحن إلا كمن أضاع درهماً ووجد ديناراً. وأقبلنا على هذه المدارس، إقبال العطاشى على المنهل الصافي. ومنينا أنفسنا بكل جليل وجميل ولكنا لم نلبث أن خرجنا منها. وواجهنا الحياة حتى علمنا بأنها لم تقم بما كان يرجى منها ويجب عليها. . . ووجدنا أننا لا نصلح في هذه الحياة إلا لشيء واحد، هو (الوظيفة)؛ أما العمل الحر، والمغامرة في الحياة فنحن أبعد ما يكون امرؤ عنه؛ ووجدنا سبيل الوظيفة مسدوداً وكراسيها مملوءة؛ وكيف لا تكون كذلك وكل الناس يسعى إليها ويريدها؟ هل يكون أبناء الشعب كلهم موظفين؟ فكنا واحداً من رجلين: إما الغني الموسر فعاش بمال أبيه. وأقام منه سوراً حوله. فلا يرى الحياة، ولا تصل إليه بآلامها ومصائبها. وأما الفقير فيتخبط في لجة اليم: يم الحياة تضربه بأمواجها، فلا ينجو من لطمة إلا إلى لطمة، ولا يخلص من شقاء إلا إلى شقاء
وقد يكون في هؤلاء الفقراء موهوبين، وقد يكون فيهم ذوو الملكات، وفيهم من إذا استراح من هم العيش واشتغل بالعلم برز فيه وبرع، ونفع أمته ووطنه وخلف للأجيال الآتية تراثاً