. . . كان مصاباً بالسل، ولكنه سل غريب قاتل، لم يكن في الرئة ولا في الأمعاء، بل كان في النفس، في الفكر، فكان يعطل شعوره وتفكيره، ويخنق حياته، ويهد كيانه. . . كان مصاباً (بداء الحب).
خمدت جذوة قريحته، وتعطلت ملكاته كلها، وضاع ذكاؤه وبادت فطنته، وضاق كل شيء في نظره، فأصبح يراه مقتضباً مختصراً: فالمسرات كلها اختصرت في لقاء من يحب، والآلام في فراقه، والواجبات كلها في إرضائه، والمحرمات كلها في أغضابه، واختصر كتاب حياته، وطمس اسمه وعنوانه، فكان حاشية صغيرة على هامش الحياة التي يحبها، واختصرت الدنيا الطويلة العريضة المليئة بالفضائل والأمجاد، الفياضة بالجمال والحقيقة والخير، فكانت كلها هذه المرأة. . .
وأقهم عن الطعام واجتواه، وأصبح خالفاً لا يشتهيه ولا يميل إليه؛ وإذا اضطر أكل أكل من قزت نفسه واكتفى بلقيمات ما يقمن صلبه، كأن هذا المرض لا يرضيه ما يفسد من النفس، حتى يحطم الجسم؛ وأصابه الأرق، فأمسى يبيت ليله سهران مسهداً، وإذا رنق النوم في عينيه، وغلبته حاجة جسمه خفق خفقة، ثم أفاق فزعاً، يفكر في هذا الإنسان، يخاف أن يطير مع الأنفاس، أو يسيل مع الدمع، أو يغرق في بحر عينيه!. . .
فهزل جسمه وخارت قواه، وتراخت مفاصله، وشحب وجهه، وآض ساهماً رازماً، ضعيفاً مخبخبأ، ولم يعد يعيش إلا على المجاز، يعيش بذكرى أيامه الماضية قبل أن يصيبه هذا السل، أيام كان ذا جسم قوي، وفكر ثاقب، وقلت شاعر. . . ولم يعد ينتفع بنفسه، أو ينتفع بها الناس بشيء، لأنه أصبح لا لنفسه ولا للناس ولا للحياة، ولكن لإنسان واحد يحبه. . .
وهكذا الحب أبداً: مرض في الجسم، وضيق في الفكر، وفرار من حومة الحياة!
وكان أمس، وكان يوماً هجهاجاً من أيام الخريف في بغداد، هبت فيه الرياح خرقاء هوجاء معصفة، تذعذع الأشجار، وتثير الأوراق، وتكسر الأغصان، وتمتد إلى كل شيء في الطبيعة، فتعيث فيه وتعبث به، وتدفعه من ههنا، وههنا. . . معتكرة تسفي التراب. وتحمل هذا الغبار الناعم الدقيق الذي يملأ الجو ويخالط كل ذرة من ذرات الهواء، وينتشر في