طائف من الإلهام البصير طاف في ذهن كبير حكيم منا أن يدعونا إلى وليمة. . . وما كاد الجمع المدعو يلتف حول مائدة ذلك الرفيق الداعي، وهي تماثل في الشكل لا في النوع الموائد التي كانت تنشر وتطوى على عجل في ميادين القتال، حتى انبسطت أسارير كل نفس، وابتسم كل ثغر، وارتسم السرور على كل محيا، ونصع كل جبين، ولا أقول (اختفى) بل أقول (تبرقع) الاكفهرار والتجهم والتوجس؛ كأن حدسا لدنياً شاع في كل نفس يهمس أن خلف الصفاء في موسم الشتاء سحبا وبروقا ورعودا مقبلة، وقد بدت طلائع غيومها حين وقف رب الدعوة يرحب بالمدعوين ويقول:
الشام أيها الإخوان، بيت واحد تسكنه أسرة واحدة متفرعة كأغصان الشجرة، والفروع الكبيرة فيها إنما هي قواعد ثابتة لعرش عربي، وصولجان إسلامي، تبذل الأرواح من أجلهما والمحافظة عليهما.
لم تنطو المائدة على عجل كما كانت تنشر وتطوى في ميدان الجهاد، بل تجلت طبيعة الشامي على حقيقتها في المباسطة والمزاح والنكتة، وهي لا تختلف عما هو مفطور عليه من الرزانة والجد إلا في الإمعان بالعمق، والإمعان في المغالاة، والإمعان في الإيلام. ودارت أحاديث، وجرى عتاب، وانجلت أمور، واتضحت مسائل، وانقشعت من ظلمات الغيوم وقائع، وافتضح سر الدساس المنافق، وبرز وجه إبليس ببسمته المعهودة، وحركة التواء عنقه التقليدية، وكاد إبليس الرجيم - عليه اللعنة المؤبدة - يقول (خذوني).
نظرت إلى وجه (حصل أفندي) هذا الشاعر الذي طالما وقف في الناس منتصب القامة، وشامخ الأنف، رافع الرأس، ينشد القصيد فيطرب، يتلاعب بالعواطف، ويهز النفوس. لقد رأيته الليلة ذابل العين، كسيف النظر، منحني الرأس، كسير النفس، ذليل الروح، فتذكرت موقفا لشاعر معاصر وقف أمام إسماعيل صدقي ثم بين يدي مصطفى النحاس، فتخيلته (حصل أفندي) وقلت إن هذا هو ذاك بعجره وبجره، وعينه ومينه، بنفاقه وكذبه؛ فرثيت لحال الشاعرين. نظرت إلى وجوه الرفاق فإذا بهم يخرجون على توقرهم لرب الدار