للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ذكرى الشاعر الفنان]

الطبيعة في شعر الرصافي

للأستاذ أنيس الحوراني

الطبيعة العراقية لوحة فنية رائعة، رسمتها ريشة مفن أصيل، صورتها في أحسن تصوير، وكونتها في أبدع تكوين: زاخرة في مفاتنها ومباهجها؛ في أنهارها الجارية وجداولها السارية، في تخيلها السامق وحقولها الخضراء، في مروجها الفيح وحدائقها الغناء، في صحرائها المترامية وهضباتها الرابضة، في رمالها الحمراء وحصاها المتماوج. . حيثما تولي وجهك ترى الجمال فيها هنا وهناك يتراءى لك في ألوان شتى وأشكال مختلفة!

تحت هذه الظلال الوارفة، وعلى جنبات هذه الشواطئ المخضلة: ترعرع شاعرنا الرصافي وشب، فترعرع معه حبه للطبيعة وشب وإياه تعشقه لجمالها الساحر الفتان. . فراح يتملئ من مفاتنها ويستلهم سرها الدفين، فيستجلي الصور الرائعة الفريدة، ويرسلها شعرا رقيقا عذبا ينساب كالغدير الصافي فوق أفواف الزهر؛ ثم نراه يطفر هنا وهناك كالبلبل الغريد ينشد ويغرد بحرارة ونشاط!

فالرصافي إذن ابن الطبيعة البار، ابنها الوفي الأمين الذي اعتز بوعده لها، فخلدها في أسمى المعاني وأرق البيان، وكثيرا ما نراه يفزع إليها بعد إخفاق الأماني، ليسري عن نفسه، وينفس عن كربه، فتسعفه بأروع ما عندها من ذخائر ونفائس. . فنراه عند ذاك كالرسام البارع الأصيل الذي يكتفي بألوان قليلة لرسم الصورة التي تمر أمامه، فيخرجها للناس بإطارها الوضاء، حيث يسكب فيها شعوره الفياض ممزوجا بمعاني النور والظلال والتجاوب النفسي في تذوق الجمال الفني الذي تأتلف فيه الطبيعة ائتلافا دقيقا. .

هذه ناحية قيمة من شعر الرصافي تجاهلها النقاد فلم يعطوها حقها، وذلك لابتعادهم عن الاندماج في نفسية الشاعر وتذوق شعره؛ فهو قبل كل شيء معبر وجداني، وشعره مرآة نفسه المتجاوبة مع عناصر الحياة وتكوينها، وأن أدبه أدب القوة والإبداع والخلود!.

وهذه الطبيعة الراقصة في شعره، يمكننا أن نتلمسها في قصائده الكثيرة منذ صباه حتى شيخوخته، فنجدها ذات روح وثابة قوية، روائعها الفنية ناطقة في غير بيان. والذي جعل شاعرنا يبدع في ذلك هو غرامه الذي لا حد له في المحسنات اللفظية والجمال البديعي، مما

<<  <  ج:
ص:  >  >>