يجعلنا نقرأ قصيدته ونستعيدها مرة إثر مرة حتى نقف على أبعد مراميها فندرك سر بيانها، وإن شعره في كثير من الأحيان يسيل رقة وعذوبة، ويتفجر عن ينابيع ثرة دافقة. .
استمع إليه في قصيدة (الغروب) يقول فيها:
نزلت تجر إلى الغيوب ذيولا ... صفراء تشبه عاشقاً متبولا
تهتز بين يد المغيب كأنها ... صب تململ في الفراش عليلا
ضحكت مشارقها بوجهك بكرة ... وبكت مغاربها الدماء أصيلا
يصف الرصافي الشمس في هذه القصيدة، وهي تجر مطارفها بخفر وحياء وقد أضربها السقم كالعاشق الواني الذي سئم رقدة الفراش؛ فنراه هنا وقد اكتفى بخطوط قليلة وألوان زاهية لإبداع لوحته الفنية، ثم صورها عند الشروق ضاحكة باسمة، وعند الأصيل مولولة جازعة تتشح بردائها الأحمر القاني الذي خضبته الدماء.
وفي قصيدته (وقفة في الروض) يقول:
ناح الحمام وغرد الشحرور ... هذا به شجن وذا مسرور
في روضة يشجي المشوق ترقرق ... للماء في جنباتها وخرير
ما قد انعكس الصفاء بوجهه ... وصفاه لاح كأنه بلور
ومنها:
وتسلسلت في الروض منها جداول ... بين الزهور كأنها سطور
حيث الغصون مع النسيم موائل ... فكأنها معاطف وخصور
تأملوا يا لله! في خيال الشاعر العبقري الواصف تجدوه كمن اطلع على أسرار الطبيعة وما تزخر به من حجب وتكهنات فراح يقتنص الشوارد بأدق المعاني وأرق الأحاسيس؛ فيشعر بمصاب الحمام وهو ينوح من شجن وعذاب، ويشارك الشحرور في تغريده لفرحته ومسرته! ثم يلتفت هنا وهناك وكأنه يستشف غور الأعماق، فينتقي سادرا في صفحة الماء الجلواء، حتى يتخيل إليه أنه يرى مدى بعدها لصفائها، وكأنها استطابت مكوثه في هذه الأرض فرقة له واستسلمت إليه، فكشفت له عن كنهها ومخابئ صدرها من جمال وروعة!.
ومن هذا الوصف المفتن ما جاء في قصيدة (ذكرى لبنان) إذ يقول فيها:
برزت تميس كخطرة النشوان ... هيفاء مخجلة غصون البان