انتهى من فرش شقته - أو حجرته إن أردت الدقة - لأنها كانت مكونة من حجرة متوسطة الحجم وردهة صغيرة، وكان الأثاث في غاية البساطة كذلك لا يعدو الفراش الخشبي الصغير وخواناً يستعمل مائدة للطعام ومكتباً للمذاكرة وكرسياً وصندوقاً لحفظ الملابس والكتب ومسطرة مدرسة الصنائع المعروفة بطولها. وهذه الشقة هي الطابق الأول لمنزل صغير مكون من طابقين متماثلين بحارة دعبس بالوايلية. هداه إليه أهل الخير، فوجده صالحاً لتلميذ مثله بمدرسة الصنائع ومن أسرة ريفية متوسطة الحال بقليوب، واكترى الشقة بخمسين قرشاً بعد أن فرضت صاحبة البيت تخفيض مليم من أجرتها. . .
واستقبل الحياة في البيت الجديد بنفس راضية، وعلم أن صاحبته تدعى (أم فردوس)، وأنها أرملة أسطى عربجي كارو ولكنها تعيش الآن من أجرة شقته وما تربحه من بيع مواد السمنة: كالمفتقة والمغات وبعض التركيبات الأخرى؛ ثم هدايا الأسر التي تعمل بها:(كبلانة) أو (خاطبة). وكانت امرأة قصيرة بدينة قوية البنية، تصبغ شعرها بالحناء، وتملأ ساعديها بالأساور الذهبية؛ وكانت قسماتها مقبولة، ولكن صوتها خشن جهوري، السب أهون ما يقذف به مما جعلها مرهوبة الجانب في الحي كله. وتساءل منذ اليوم الأول لإقامته في البيت: ترى هل لأم فردوس بنت تدعى فردوس حقاً؟. . . وأين هي؟ هل تقيم معها في البيت أم أنها في بيت زوجها؟. . . وربما كان الباعث على السؤال حب الاستطلاع ليس إلا، وعلى أية حال جاءه الجواب سريعاً، ففي صباح أحد الأيام، وكان يهم بمغادرة شقته إلى المدرسة سمع وقع أقدام خفيفة فصوب بصره إلى أعلى السلم فرأى فتاة في السادسة عشرة مرتدية مريلة المدرسة الزرقاء تهبط في تؤدة حاملة حقيبتها، فانتظر حيث هو موسعاً لها الطريق، وقد التقى بصره ببصرها وهي تعاينه بعين يعلوها الارتباك، ولما حاذته خال أنه سمعها تحييه خافت قائلة (صباح الخير) فقال لها بلهجته الريفية القحة (صباح الخير). . . ثم تبعها على مهل حتى خلصا إلى الطريق، ولم تلتفت الفتاة إلى الوراء، ووضعت حقيبتها على خاصرتها وأحاطتها بذراعها ومضت. . . ترى هل تكون