لن يدور بخلدك أيها القارئ أن بستور ترك اسمه للنسيان، وشهرته للنقصان، أثناء الزوابع التي أثارها كوخ في الدنيا وهو يثبت أن المكروب يقتل الناس. وكيف يجوز هذا على بستور وفي عوده ما نعلم من صلابة، وفي أنفه لتصيد المكروب ما في أنف الكلب، وفي نفسه ما في نفس الشاعر من الحس والخيال؛ وهو فوق ذلك رب الدعاية الذي يعرف كيف يأتي الجماهير فيشهدهم فيتركهم صرعى حيارى مما رأوا أو سمعوا؟
في أواخر العقد الثامن من القرن الماضي - وكان كوخ قد اكتشف بذور داء الجمرة فأدهش الأطباء وأفرغ وأبدع - قام بستور ينفي بهزة من كتفه، وكلمة من أنفه، وتلويحة من يده، ما تمخضت عنه تجارب الأطباء ألوف السنين. يا لها صفاقة من كيميائي! وحكاية ذلك أنه جاءت فترة من الزمان صارت فيها مستشفيات الولادة بباريس مخابئ للوباء، تدخلها الأمهات يملؤهن الأمل ويحدوهن الرجاء، ولكن القدر الصائد الخبيء فيها كان يختطف منهن أما من كل تسع عشرة، تذهب بها حمى النفاس تاركة ولدها يلقى الحياة بغير حب الوالدات. وماتت عشر نسوة متتابعات في مستشفى واحد فأسماه الناس (بيت الإجرام)، وارتاع النساء فلم يثقن بالأطباء حتى أغلاهم أجورا، ًوبلغت بهن الريبة فأخذن يقاطعن المستشفيات، وخشي كثيرات منهن مواجهة مخاطر الحمل فرغبن بحق عن النسل، والأطباء أنفسهم فزعوا وافتضحوا بمرأى رسل الموت قائمة هكذا على أبواب الحياة وهي تولد. وذات يوم اجتمعت أكاديمية الطب بباريس، وقام فيها طبيب شهير يخطب ويجلجل في أسباب حمى النفاس - وهو وا أسفاه يجهلها كل الجهل - وامتلأ خطابه الرنان بكثير من الكلمات الإغريقية الطويلة، وكثير من الألفاظ اللاتينية الفخمة، وبينا هو في إحدى جملهُ الطنانة قاطعه صوت كالرعد جاء من مقاعد البهو الأخيرة. قال صاحب الصوت: (إن الذي يقتل النساء بحمى النفاس ليس الذي تقول، ولا شيئاً يشبه الذي تقول. إن الذي