ذكرت في مقالي السابق أن أبا عبادة البحتري كان ذا حظوة سعيدة لدى الخلفاء، فقد أغدقوا عليه من الهبات الجزيلة ما اشترى به ضياعاً واسعةً في ضواحي بغداد، وأخرى في منبج بالشام، ولكنه على رغم ثروته الطائلة كان يضيق على نفسه فلا يلبس سوى الخز الرخيص ولا يأكل غير ما يقوم بحاجته الضرورية، وطبيعي أن يعامل أهله بهذه الكزازة الشحيحة، قال الحكم بن يحيى:(كان للبحتري أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعاً، فإذا بلغ منهما الألم مبلغه أتياه يبكيان فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيقاً مقتراً ويقول: كلا، أجاع الله أكباد كما وأطال إجهادكما)، وكان يأخذ أضيافه بنوع من القسوة لا ينبغي أن تصدر من شاعر مرهف الإحساس رقيق الشعور، قال أبو مسلم محمد بن الأصفهاني الكاتب (دخلت على البحتري يوماً فحبسني عنده ودعى بطعام له فامتنعت من أكله وعنده شيخ شامي لا اعرفه فدعاه فتقدم وأكل معه أكلاً عنيفاً فغاظه ذلك، والتفت ألي قائلاً: أتعرف هذا الشيخ؟ فقلت: لا، فقال هذا الرجل من بني الهجيم الذين يقول فيهم الشاعر:
وبنو الهجيم قبيلة ملعونة ... حمر اللحى متشابهو الألوان
لو يسمعون بأكلة أو شربة ... بعمان أصبح جمعهم بعمان
قال: فجعل الشيخ يشتمه ونحن نضحك).
ولقد كان غرام الوليد بالمال خيراً وبركة على شعره، إذ فتح له أبواباً من القول ضاعفت إنتاجه، فقد كان لا يرى عند خليفة أو رئيس سيفاً أو فرساً أو خاتما أو قلما إلا وصفه وصفاً بارعاً ثم استهداه منه؛ فإذا تم له ما أراد أخذه فباعه وأضاف ثمنه إلى خزينته، والواقع أن هذا استجداء غير مشرف، لأن الهدية لا تباع بحال من الأحوال!!
وقد نشأ البحتري في عصر تفاخر فيه المترفون باقتناء الجواري والغلمان، باذلين في ذلك أنفس ما يملكون من ذخر وعتاد، فكان الوليد لا يفتأ يستهدي من يروقه من المرد الحسان