ختمنا مقالنا السابق واعدين أن (نطابق في مقال آخر بين سيرة الرجل وفلسفته، وبين العرض والجوهر في هذه المطابقة)
وإنما رأينا ضرورة هذه المطابقة لأننا اعتقدنا أن كثيراً من القراء سيلمحون جانباً من التناقض الكبير بين دعوة الرجل وسيرته في حياته: بين رجل يزدري الحياة ويستمتع بلذاتها، ورجل يقتضي مذهبه الزهد وهو يحرص على المال، ورجل يهرب من الوباء وهو يبشر (بالنرفانا) والفناء، ورجل عبوس الرأي مشرق الفكاهة
فمن المفيد ولا ريب أن نبين وجهة النظر التي تتجه إليها في تعليل ذلك التناقض، وأن نشرح التوافق الباطن في هذا التناقض الظاهر، وأن نقول إن مذهب الحرص ومذهب التشاؤم كلاما يصدر عن منبع واحد، فلا اختلاف هناك ولا غرابة من وراء الحجاب، وإن بدا لنا الأمر على ظاهره مختلفاً جد الاختلاف مستغرباً جد الغرابة
كان شوبنهور إمام المتشائمين الساخطين على الحياة المستريبين بالناس، المتوجسين من ضمائر الغيب
كان لا يسلم وجهه قط إلى حلاق مخافة أن يذبحه أو يجرحه، وكان يغلق الأقفال على أدوات تدخينه مخافة أن تمزج بالسموم، وكان ينام والى جانبه مسدساته محشوة مهيأة للإِطلاق، وكان لا يطيق معاشرة الناس ولا سماع الأصوات، وكان يقول إن الحياة نقمة لا تحمد ومحنة لا تطاق
كان كذلك وكان يخاف الموت ويهرب من الطاعون، فكيف يكون التوفيق بين هذا الفزع من الموت وذلك التشاؤم بالحياة؟
هما في الحقيقة شيء واحد!
فالمتشائم لا يتشاءم إلا لأنه شديد الإحساس بالخطر، شديد الغلو والإغراق في هذا الإحساس؛ وليس مقتضى ذلك أن يطمئن إلى الأوبئة والأمراض ويركن إلى السرائر والنيات كما يلوح في بادئ الرأي، بل مقتضاه أن يفزع من النذير إذا كان غيره لا يفزع