لقد اشتهر الشرق منذ القدم بأنه منبت كل دين، ومنبع كل عقيدة. منه انبعثت التعاليم الدينية، وانتشرت في مختلف أرجاء العالم، ومنه انبثقت العقائد الروحية، واستقرت في قلوب شتى الشعوب. وإن تاريخ الحضارات يشهد بأن الذي بعث الطاقة الحيوية في نفوس الشرقيين للخلق والابتكار في جميع ميادين الحياة من علم وفن ومدنية، هي البواعث الدينية التي تضع قوانين حياتهم الاجتماعية، وتنظم وسائلهم الاقتصادية، وتسن نظمهم الدنيوية. ولم تخالف مصر الفرعونية الشرق في روحيته، ولم يتخلف قدماء المصريين عن الإيمان العميق بالدين، ولم تهمل الحضارة الفرعونية في اتخاذ الحوافز الدينية محركا فعالا لنهضتها الخالقة.
لقد قال هيرودوت عن المصريين إنهم شعب تقي ورع، يخاف الله. ولم يبعد هيرودوت عن الحقيقة حينما تلتمس في قدماء المصريين تلك النزعات الدينية السامية، إذ أن تاريخهم الطويل وتراثهم الحضاري الضخم يعطينا من الأدلة ما يغنينا عن شهادته. لقد لعبت عقيدة البعث الدور الأول في بناء حضارة الفراعنة، إذ أن إيمان المصريين بحياة أخرى بعد الموت، حصر همهم في الاستعداد لهذه الحياة. وتحت تأثير هذه العقيدة الدينية نشأت العلوم والفنون، وتحت رعاية رجال الدين تقدمت حتى بلغت حدا من الكمال لا يدانيه إلا ما تمتاز به الحضارة المعاصرة من رقي وتقدم.
آمن قدماء المصريين بعودة الإنسان إلى الحياة مرة أخرى، ولكن عقيدتهم تشترط لإمكان تمتع الإنسان بهذه الحياة الثانية: أن يبقى الجسد سليما لا يعتريه التلف، لأن الروح لا ترجع إلى جسد فاسد؛ وإن نال البلى من الجسد فإن الروح مصيرها الهلاك والفناء. فحرص قدماء المصريين على المحافظة على جثث الموتى حرصا على الخلود. ولقد كان هذا الحرص من أقوى البواعث الدينية التي ساعدت على وضع أسس حضارة تبرز ذكراها جميع الحضارات القديمة، فلا نعجب إذا نشأت الحضارة الفرعونية مع بناء المقابر، وتطورت مع تطورها. وكانت أولى المحاولات التي استعان بها قدماء المصريين على المحافظة على الموتى، هي دفن الميت في حفرة بسيطة تردم بالتراب والرمال، ولكن