للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[المنطق المنظور والمنطق المستور]

للأستاذ عبد الله حسين

ألف الناس أن يطلقوا على ما يقع لهم أفراداً أو جماعات، من الأحداث، اسم الغرابة والمفاجأة والشذوذ، وأن يبدئوا ويعيدوا في وصف كل حدث من الأحداث، كأنه شيء لا يقع إلا في الخيال ولا مثيل له في حوادث التاريخ، أو كأنه قد وقع من غير مقدمات ولغير علل وأسباب!

ولعل مرجع هذا عندهم إلى أنهم يحرصون على حياة السلامة والدعة التي ألفوها قبل أن يتأوَّد مجرى حياتهم، ويزور مستقر شأنهم وقبل أن يشهدوا انحرافاً في ميزان حياتهم

ذلك، أن الناس كانوا ولا يزالون حريصين على ما يدعونه (الحقوق المكتسبة) ينعمون بثمارها. فإذا اعتاص عليهم أمر من الأمور، لعقبة أو نازلة أو عرضٍ من أعراض الحياة وأطوارها المتناقضة ظاهراً، نادوا بالويل والثبور، وحسبوا ما واجههم من عظائم الأمور، ومن المنطق المستور!

قال أحد فلاسفة فرنسا: (وليس يقع في الدنيا غير الشاذ)

أولم يقولوا في الحرب إنها حالة شاذة، كأن السلم هي الحال الدائمة الطويلة؟

أولم يتطير الناس من الحروب والثورات وما إليها من الفتن والاضطرابات وألوان الانقلابات حتى الاقتصادية منها؟

يذهب الناس إلى هذا مع إنهم لو عَمَدوا إلى الاستقراء وفتحوا عيونهم على العالم كله قديماً وحديثاً، لفقهوا أن الحياة الاعتيادية ليست دعةً وسكوناً وأمناً وسلاماً إلا في حيز محدود وزمان غير طويل؛ فإن الدنيا لا تعرف السكون الطويل، والحياة ليست بالمستقرة المطمئنة إلى قواعد ثابتة، وأسس لا يعفى عليها تقلب الحدثان

وقد تأثر الكتاب والأدباء يحسبان الحياة سلماً واطمئناناً وأمناً إلا في النادر وعند المفاجأة وشواهد الغرابة، فبالغوا في تصوير الأحداث التي تقع على غير ما كان يتوقع أصحاب (المنطق المنظور) ونعني به منطق الحوادث اليومية الاعتيادية المألوفة التي تكاد تجري على صورة واحدة، فإن الاستمساك بهذا المنطق السطحي الضيق، هو آفة النظر الفاحص البعيد، الذي يزن الأشياء بميزان (المنطق المستور) الذي يستطيع أن يبلغ حقائق، ويكشف

<<  <  ج:
ص:  >  >>