للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأدب بين عالمين]

للدكتور إبراهيم سلامة

نحن نعيش بين عالمين يتجاذباننا ويحاول كل منهما أن يردنا إلى ناحيته: (العالم الخارجي) و (العالم الداخلي). ولك أن تقول إننا لا نحيا متجاذبين بين هاتين القوتين، بل نحن نعيش فيهما، فلنا حواس تنقل ما تقع عليها، فتدرك العين المرئيات، والأذن المسموعات، واليد الملموسات. فحواسنا تنقل إلينا صور الحياة كما هي، ولكننا لا نعيش في هذا المادي وحده، وإلا ضقنا به وتخلصنا منه، وكان من حرم حاسة من هذه الحواس كأنما اغلق أمامه باب من أبواب المعرفة بالحياة. وما هكذا خلقنا وما هكذا نعيش! فنحن نعيش في عالم داخلي من إدراكنا لما تجلبه حواسنا، ومن تأويلاتنا لهذا المدركات بعد عرضها على ما فينا من حاسية وميول ونوازع وتفكير نحلل به ما يرد إلي نفوسنا، وذكاء نرد به ما يرد علينا من العالم الخارجي إلي الناحية التي نجد فيها منفعته وصلاح شئوننا وغذاء عواطفنا. ومن هنا ما يقول (ديكارت): من أن (الأشياء التي تحرك حواسنا تهيج فينا الميول المختلفة لا للاختلافات الكثيرة التي تدور بها المحسات، ولكن لاتصال هذه الاختلافات بنفعنا أو ضررنا)

ومن هنا أيضاُ ما قاله (مال برانش) من أن حواسنا أمينة مخلصة في تعليمنا العلاقات المختلفة التي بيننا وبين ما يحيط بنا من الأشياء في العالم الخارجي، ولكنها نع أمانتها وإخلاصها لا تعطينا صورة صادقة عن كل ما نحس به، فما حواسنا إلا هبة إلهية لحفظ حياتنا).

فديكارت الفيلسوف ومال برانش الأديب متفقان على أن العالم الخارجي الذي تربطنا به حواسنا ليس عالمنا وحده، بل فينا ميول تهيج وتثار بتلك الآثار المحسة ليست صورة صادقة لما نحس به، فنحن نعيش أيضاُ في عالمنا الداخلي الذي يحررنا من الخضوع للعالم الخارجي، ويجعلنا عبيداُ له عبودية العالم إلى الملاحظة والمشاهدة الاستقراء، وعبودية التقليدي إلى قاعدة يلتزمها ويقيس بها مسائل العالم. والعالمان كما ترى مشتبكان متداخلان، ولكن ينفرد العالم (بالعالم الخارجي) يستمده في الملاحظة والمشاهدة، وينفرد الأديب (بالعالم الداخلي) يستغرق فيه ويتسع بطبيعته لتأملاته وتصوراته. إن الأديب الذي استمتع بمنظار

<<  <  ج:
ص:  >  >>