من مناظر الجمالية، ثم جلس بعد مشاهداته إلى مكتبه إنما يجلس إلى تأملاته، ويجلس إلى صور وتصورات قد تكون موادها الأولى من العالم الخارجي عالم المحسات، وقد يزيد فيها وينقص بما يهبها من حيوية وخيال وإضافات لم تكن لها في عالمها الأول. والفرق بين ما يسميه علماء النفس (بالخيال الاسترجاعي) و (الخيال الابتكاري) وإذا كان الخيال الثاني أسمى من الخيال الأول سمواُ قد يصل إلى درجة الاختراع في الصور العقلية، وإلى درجة الخلق والابتكار والإبداع في الصور الأدبية، فذلك لأن الخيال الاسترجاعي يعتمد على أكثر ما يعتمد على استعادت المحسات كما هي في العالم الخارجي، في حين يعتمد الخيال الابتكاري على العالم الذي يمده بكثير من القوى النفسية التي تعتبر أساساُ للجدة والإبداع.
إن عالم الحس ضاغط ملزم، أما عالم الصور والتصور فحر طليق. إنني أمام شجرة وقع عليها نظري، ولابد لي من أن أراها شجرة، ولا يمكنني إلا أن أقول إلا إنها شجرة. أما الأديب فله أن يقول (إنها كلمة طيبة كالشجرة الطيبة) وله أن يقول إن صاحبه الذي لا فائدة فيه كشجر السرو (له رواء وما له ثمر) ولابن الرومي أن يقول إن صاحبه جاف جامد كشجر الخلاف:
فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الأثمار كل الآباء
إن المحسات تتحكم في الأدب لأنها ضاغطة ملزمة كما قدمنا. فلا حرية للأديب أمام العالم الخارجي، أما في عالمه الداخلي فحر طليق يتحكم في صوره حتى ولو جاءته من عالم الحس فيطاردها ويحل أخرى محلها ويجمعها ويفرقها ويتركها أمامه، تتجمع وتتفرق، وتتناصر وتتزاحم، وتتوالد وتتقلص، ليؤلف خياله كما يريد، أو لتطاوع هذه الصور خياله كما يريد أن يبرزها الخيال. فعالم الحس يعرف بشاراُ ضخماُ قوياُ لو توكأ على جدار لإنهدم الجدار؛ ولكن بشاراُ لا يرى في برديه إلا جسماُ ناحلاُ (لو توكأت عليه لإنهدم) والناس تسمع للمتنبي وتراه ملء العين وملء برديه، ولكنه يرى نفسه ضئيلاُ هزيلاُ، بل يريد أن يخائل الناس في حواسهم ليروه كما يرى نفسه من النحول والذبول ولولا كلامه ما كان في جسمه معلم يدل على حياته:
كفى بجسمي نحولاُ أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
إن (تين) شيخ المقتنين في الأدب والنقد إذا كان لا يرى في (الصورة) إلا أنها (إحساس