أمين أفندي الحاوي (كاتب عمومي) له في هذه الصناعة القدم الأولى والمكان المنفرد. حفظ في صدر أيامه كتابي:(إنشاء العطار، للمحبين والتجار)، و (أبدع الأساليب، في العرائض والمكاتيب)، وهما كتابان يجمعان أعاجيب شتى مما يخطر للبكم من أهل الهوى، ويعرض للجهال من ذوي الحاجة. ثم دخل الجندية في (قرعة الخديوي عباس)، وهي القرعة التذكارية التي طلب فيها لداته (للجهادية)؛ فكان يكتب لرفاقه الجنود رسائل الشوق والعشق والسلام كل رسالة بنصف قرش. فلما خرج من الجيش العامل إلى (الرديف) سلك نفسه في نظام (البوليس) تسع سنين كوامل، ازداد فيها علما بطرائق النظام وطوائف الحكام وأحوال المجتمع؛ وكان من الممكن أن يتقلب في نعيم الشرطة مدة اطول، ولولا إن خيرها الدفاق في يده من الشوارع والحوانيت قد فاض على جسمه فتراكب لحمه، وتدلى بطنه، واستغار فيه الشحم حتى كاد ينقطع قيامه، فلم يكن بد من الحكم عليه بهذه الحجة القائمة على طِماح عينه، وطول يده، وقعود همته؛ فخرج إلى حياة (التحرير)، وهي منذ شب حديث عبقريته ومطمح امانيه، واتخذ له مكتبا تحت السماء أمام (سراي المحافظة)، وألقى حيله الموهوبة والمكسوبة في غمرة الحياة وزحمة العيش، فعادت له بالشهرة الرابحة في دنيا القضايا والشكايا والسمسرة. فكانت العريضة أو الرسالة أو (الكمبيالة) التي يحررها الحاوي، أملاً لحرفائه في ضمان الفوز، ومثلا لزملائه في فن الكتابة. ثم تدخل في زوايا البيوت، وتغلغل في طوائر السرائر، وتبسط على موائد الانس، وتفنن في أساليب الوساطة، فكان دليل (الخاطب)، ونديم الشارب، وسلوة المحزون، وسمسار المشتري، ووكيل المدعي، وسفير الخصوم، ورسول الأحبة. تراه اكثر النهار على مقعده الخشبي الضيق في جلباب فضفاض من الكستور المخطط، ومعطف رقيق من النسيج المهلهل، ورغائب الناس تنثال عليه انثيال النحل العاسلة على الخلية الضخمة: هذا صاحب مظلمة يريد عرض حال، وذاك طالب مصلحة يتلمس طريق المسعى، وتلك زوجة هاجر أو حبيبة فاجر تطلب المعونة من قلمه أو لسانه، وهذا رافع دعوى يرغب توكيل عام، وذلك زميل عجلان يطلب كلمة لغوية أو جملة نحوية يزين بها رسالته الغالية الثمن (لزبونته) الرفيعة القدر، وأمين الأريب في يده قلم، وفوق أذنه قلم، وعلى شفته بسمات تتعاقب مختلفات في السعة واللون والدلالة، يتلقى كل طالب برغبته، وكل سائل بجوابه. وهو بعد ذلك لكثرة ما يغشى بيوت الناس