رجل كهل معتم، له لحية وفي يده سبحة، دخل المحكمة ودخل وراءه مريدون له، ذوو عمائم، يتبعونه متخشعين ويلحظونه مكبرين، فوقف موقف المدعي عليه، وجلسوا من خلفة في مجالس المستمعين، وكان المدعي شيخا هما ترعش يداه، وتضطرب رجلاه، ويزيغ بصره، ويتلعثم إذا تكلم لسانه ويفيض لعابه، وكانت دعواه أن هذا الكهل ابنه، وأن زوجته وهي أم المدعى عليه قد ماتت منذ شهرين، وهذا الولد قد وضع يده على تركتها كلها، فلا هو يعطيه حقه فيها فعل الرجل الشريف، ولا هو ينفق عليه إنفاق الولد البار، فهو يطلب. . . فسئل المدعى عليه ذو اللحية والسبحة، فقال: أن المدعي أبي ولكن له مالا فلا تجب علي نفقته، وأمي مطلقة منه فلا نصيب له في ارثها. فلما سمع الشيخ ذلك بكى بكاء محروق الفؤاد، واستنزل على ابنه غضب الله. إذ يعظ الناس ويأمرهم ببر الوالدين، ويسوق في ذلك الآيات والأخبار والرقائق، ثم يأبى إلا أن يجمع على نفسه بين عقوق أبيه حيا، وأمه ميتة، ويضم إلى ذلك كذبا وافتراء، ولا يرعى حق الأبوة، ولا يرأف بضعف الشيخوخة، ويصم أمه بوصمة الطلاق، وهي تشينها أن كانت حقا فكيف إذا كانت باطلا، وينسى الدين والمروءة، كل ذلك من أجل شيء من المال ماله به من حاجة، وما هو إلى مثله فقير، ولكنه الطمع وحب الدنيا التي يزهد فيها، وقلة الأمانة التي يدعو إليها.
ونصحت المحكمة هذا (الواعط. . .) فما انتصح، وذكرته فما أذكر، ثم كانت النهاية أن خرج فائزاً بدنياه رابحا دعواه، يتبعه مريدوه وتلاميذه مكبرين موقرين، وخلف أباه الشيخ الراعش، يتلمس يداً تسنده ليخرج من المحكمة وفي عينيه الدموع وعلى لسانه اللعنات، وفي قلبه الحسرات. . .
- ٢ -
امرأة محجبة مستورة، على صدرها ولد، وفي بطنها ولد، تدعي على رجل أنه زوجها وأبو