في الربع الأول من القرن الحالي، كان يقول الأدباء في مجالسهم في أديب كان معروف المكانة الأدبية آنذاك: إنه يؤلف عندما يترجم، ويترجم حينما يؤلف.
تلك المقالة التي كانت تقال همساً في مجالس الأدباء كانت تنطبق على أكثر كتاب وأدباء ذلك الجيل ممن كانوا يردون الأدب من موارد الغرب، ولم يكن يستثنى منهم إلا نفر حرصوا على كرامتهم الأدبية وعلى كرامة الأدب نفسه من الابتذال، فبقيت آثارهم تدل على أمانتهم في الترجمة وفضلهم في النقل.
ما كاد يهل الربيع الثاني من القرن العشرين؛ عصر الآداب والفنون والعلوم، حتى ظهرت بيننا ظاهرة جديدة في الترجمة والنقل استحدثها كاتب شيطان لبق مرن، واسع الاطلاع على الأدبيين العربي واللاتيني، فتوفر دائماً للحركة والعمل، ودأب على الإنتاج وعلى إثارة الضجيج حوله، وما لبثت تلك الظاهرة بدعة الشيطان الدريش، أن انتشرت بين الكتاب لسهولتها وعم اقتباسها واستعمالها عند الكثيرين من الكسالى الذين تستهويهم الشهرة ويجذبهم حب الكسب. وهكذا صار تلخيص الكتب والروايات الغربية ونشر هياكلها بعد مسخ روحها ونسخها هو القاعدة في الترجمة والنقل، ولكن أبى الأمناء من المترجمين، وهم قلة، والحرصاء على النقل الصحيح في آداب الغرب إلا السير في طريقهم القديمة، النهل من الينابيع النقية الصافية، غير آبهين بالترهات والخزعبلات الشيطانية، وقد أنكروا ذواتهم واستهانوا بمنفعّتهم حباً للأدب، ووفاء لأمتهم الناهضة. وهكذا أعدوا للجيل الجديد عوائد فوقها ما فوقها من الشهي المستحب من أدب الغرب النافع.
الترجمة في الأصل فناء شخصية معجبة في شخصية مبدعة. وهي ككل الفنون لا محيد لمتعشفها من موهبة طبيعية. فكما أن المستحيل على غير الموهوب أن يكون موسيقياً أو شاعراً أو رساماً، كذلك يكون من العسير أن يكتسب الكاتب فن الترجمة اكتساباً (وفن الترجمة لا يكفي فيه الجهد المبذول، ولا تحمل العناء؛ ولا بد فيه من التوفيق). ولما كانت خصائص إعجاب المترجم الأمين تتقارب من خصائص المبدع الفني وتضارعها؛ لأن