للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[ملكة الجمال]

للدكتور عبد الوهاب عزام

للأقلام محن تقضي عليها أن تسف إلى ما لا تود الكتابة فيه، وتكره على أن تخط ما تريد الترفع عنه. وقلمي مكره على الكتابة في هذه الحماقات، مرغم على أن يعنى بهذه الترهات

- ١ -

كنت أحادث جماعة من الأصدقاء، فسارت بنا شجون الحديث إلى أن تكلمنا في المدينة الحاضرة حسنها وقبيحها، وجليلها وسفسافها. قلت: أحسب أن المسيطرين على أخلاق الناس في كثير من مناحي المعيشة الحاضرة جماعة من التجار المفسدين. قال صديق: كيف ذلك؟ قلت: في طبع الإنسان الكلف بالذات، والاستهتار بالشهوات، وقد سار العالم آلاف السنين على هدى التجاريب، وتعليم الأنبياء والحكماء، يزن آلامه ولذاته، ويعدل بين مصالحه وشهواته، ويضع شرائع، ويسن سنناً ليعيش الإنسان على شريعة تعرف وتنكر، وتستحسن وتستقبح، وتقول هذا حلال وهذا حرام، حتى استقامت للإنسان خطة في سياسة نفسه ومعاملة الناس. وصار يجاهد نفسه ليمنعها لذاتها، علما بأن وراء اللذة العاجلة شراً أعظم منها، ويصبر نفسه على ما يكره إيثاراً للعافية في العقبى، واستمساكا بالفضيلة التي سكن إليها، ومكنتها في نفسه سيرة الآباء

قال صديقي: هذا حق فما وراءه؟ قلت: أرى العصر الحاضر مفتوناً كل الفتنة بالأهواء، مستكلباً على الشهوات، قد فتحت له من الملاهي أبواب، ومدت له إلى الغي أسباب؛ فشغلت من الحياة جانباً. هذه الملاهي والمراقص والحانات والمواخير. ورأى كثير من الناس هذه الدور مجلبة ربح عظيم، ووسيلة مال وفير، فأقبلوا عليها إقبالاً، وافتنوا فيها افتناناً، واستعانوا على تزينها وجلب الناس إليها بكل ما أنتجت الحضارة من علم وفن، ولم يدعوا حيلة في الاستهواء إلا اتخذوها، ولا وسيلة إلى تهافت الناس عليها إلا توسلوا بها. امتن كل فيما يعرض، وتؤدي المنافسة والطمع في المال إلى استباحة المحظورات، فينظر الناس أول الأمر ثم يسكنون، ويخدعون أنفسهم فيما يرون، بما تصبو إليه غرائزهم وتغرم به شهواتهم حتى يصير هذا أمراً معروفاً وعملاً مألوفاً. ثم يحدوهم حب الربح والمنافسة إلى أن يثيروا شهوات الناس بأفانين أخرى وهلم جرا، حتى لا يصدهم وازع من فضيلة أو

<<  <  ج:
ص:  >  >>