للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[في رأس البر]

للأستاذ احمد أمين

يعجبني في رأس البر بساطة العيش والقرب من الديمقراطية. يعيش الناس - كما كان يعيش آباؤهم الأولون - في أكواخ من الحصر، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم؛ ويلبسون لباساُ ساذجاُ قريب الشبه بما كان يلبس آبائهم، ويسبحون في البحر عراة، ويمشون على البر حفاة؛ ملوا المدنية وزخارفها، والحضارة وبهرجها، وهربوا من المدن وضوضائها، والأرستقراطية وأوضاعها وتقاليدها وتعقيداتها، وارتموا في أحضان الطبيعة فأفسحت لهم صدرها، ينزلون البحر فينفضون عنهم هموم الحياة، وينبطحون على الرمل ويذكرون قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)

ليس فيها قصور شامخة بجانب أكواخ وضيعة، وليس فيها ثريات كهربائية بجانب أضواء زيتيه أو غازية، ولا ملابس أنيقة بجانب أثواب مهلهلة؛ يصعب عليك التمييز فيها بين الغني والفقير، والعالم والجاهل، إلا في الآنسات والسيدات فهن يأبين إلا الظهور، والتمسك بالفروق، وإلا في أمثالهن ممن حليتهم لباسهم، وقيمتهم مظهرهم

خلف فيها الناس وراءهم المخترعات الحديثة بجلبتها ورذائلها؛ فلا سيارات تصم الآذان بأبواقها، وتأنف الأنوف من روائحها، وتربك السائرين لسرعتها وكثرتها واضطراب حركاتها؛ ولا تلفون يرن في الهجير وفي منتصف الليل فيوقظك من نومك الهادئ، ويحملك رجاء تنوء بحمله، أو يصلك بثقيل ينغص عليك الحياة بحديثه؛ ولا راديو يسمعك اللطيف والسخيف، ويأبى عليك النوم أحوج ما تكون إليه، وأشد ما تكون رغبة فيه، لأن جيرانك يأبون إلا أن ينتفعوا به كاملاُ من بدء يمين - شمال، إلى سلام الملك!

حياة حرة طليقة، وجو مفتوح، وهواء جديد دائماُ، لم تفسده الحضارة بدخانها وغازاتها، ولم تحبسه الأبنية الشامخة، ولم تحجزه الحيطان الأربعة، تتجدد النفس بتجدده، وتمتلئ نشاطاُ من نشاطه، يغذي كل خلية غذاء حلواُ طيباُ، ويخلع على الجسم لوناُ نجاشياُ ظريفاُ، وينعش العواطف والروح، فهي قوية حادة، شديدة التنبه، شديدة الإحساس؛ حتى عاطفة الدين، فهي أقوى ما تكون، واطهر ما تكون، وأصفى ما تكون، حينما تتجلى الطبيعة في ثوبها الفطري الجميل، في السماء والماء، والمزارع والحقول، فليس الإلحاد والزندقة والتعصب الذميم

<<  <  ج:
ص:  >  >>