للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من مزايا عصر السرعة!]

الحرب بين أمس واليوم

يقول الأغرار من الناس إن السرعة الخاطفة عبقرية هذا العصر ومزيته. فمن لم يجرِ مرَّ على ظهره المتأخر وغيَّر في وجهه المتقدم. وواجب السرعة أن تعمل ولا تستريح، وتفكر ولا تتأمل، وتأكل ولا تتذوق، وتنام ولا تحلم، وتموت ولا تمرض. ونحن نقول لهم إن السرعة ليست عبقرية ولا مزية؛ وإنما هي مس من الجنون أصاب العالم منذ اخترعت الآلة. ذلك أن الآلة مخلوق أرضي جهزه العلم بعشرات الأعضاء ليس بينها اللسان ولا القلب ولا العقل ولا الروح، فهي تلد ولا ترأم ما تلد، وتعمل ولا تضمن ما تعمل؛ وهي تكون للشر كما تكون للخير، وتنتج للموت كما تنتج للحياة. وطبيعة الآلة سرعة الحركة ووفرة الإنتاج؛ فلم تكد تسيطر على مجاري العمل في أقطار الأرض حتى دفعت العالم دفعاً عنيفاً إلى الإهتلاك والاستهلاك والتسابق والتنافس والإصطراع والكدح، فهو دأب لا يفتر، ونصب لا يستروح، ونهم لا يشبع، وعراك لا ينقطع. ولئن سألت المتبجحين بعصر السرعة على العُصر الخوالي كيف يجد الجسم راحته في هذا الاضطراب الدائم، وأين يلتمس القلب سعادته في هذا الجحيم المستعر؛ وماذا أدرك راكب السيارة أو الطيارة أكثر مما أدرك صاحب الجمل والحمار وراكب الحنطور والقطار، لا تسمع منهم غير جواب أشعب حين أجرى الصبيان إلى الوليمة خادعاً بالحيلة، ثم جرى هو معهم مخدوعاً بالوهم!

هذه هي الحرب التي عرفها العالم منذ خلق الله آدم وإبليس قد انقلبت في عصر السرعة آلية لا تعتمد على فضائل النفس ولا على خصائص الروح، وإنما تعتمد على سرعة الدواليب في الطيارة والسيارة والدبابة والدراجة والغواصة والبارجة. فأصبح الفرق بين الآلة والسيف في حصد الأرواح كالفرق بين الماكينة والمنجل في حصد الحنطة!

إن معركة الفلندر التي شبت بين الألمان والحلفاء أهلكت في أيامها المعدودة من الأنفس والأموال أكثر مما أهلكت حرب البلوبوينز التي نشبت ثمانياً وعشرين سنة بين أسبرطة وأثينا، والحروب الميدية التي اشتبكت أربعين سنة بين الفرس والإغريق، وحرب البسوس التي اضطرمت أربعين عاماً بين بكر وتغلب، والحروب الصليبية الثمان التي ظل ضرمها يحتدم ويخبو قرناً وثلاثة أرباع القرن بين الغرب المسيحي والشرق المسلم!

<<  <  ج:
ص:  >  >>