في سنة ١٩٠٩ كنت في جامعة من جامعات انجلترة، وكان أحد أساتذتنا في الجامعة قد دعاني إلى وليمة أعدها إلى كما دعوته إلى مثلها؛ وكانت هذه الدعوات عادة الأساتذة والطلبة، فجلسنا إلى مائدة الطعام ولم يمنعنا من الحديث فيما هو عملنا وبحثنا وهو التاريخ كما تفعل كل طائفة، فإن الناس لا يمتنعون حتى في مباذلهم وأوقات راحتهم عن الحديث في أعمالهم اليومية. ولما كان الإنجليز أمة تجار وتكثر في إنجلترة الدكاكين فقد اشتقوا في لغتهم عبارة يعبرون بها عن هذه الظاهرة. فكلما تكلمت طائفة في أمر من أمور أعمالها اليومية قالوا إن حديثهم كان دكاناً أو عن الدكان حتى ولو كانت الطائفة من المشتغلين بالعلم وليس لهم دكان
فأخذنا في الحديث عن التاريخ والحضارات، وكان أستاذنا صاحب الدعوة قد عودنا الصراحة في القول والتفكير والبحث، فكان لا يخفي رأيه في أمور حضارتنا كما كنا لا نخفي رأينا عنه في أمور قومه وتاريخهم وحضارتهم. وكانت المناقشة لا تتعدى الوقار والأدب. فقال الأستاذ إن التاريخ يدل على أن مظاهر الرحمة في الحضارات والدول الأوربية قديماً وحديثاً كانت أعظم من مظاهر الرحمة في الحضارات والدول الشرقية، وقال إن هذا يدل على أن الحضارات الأوربية قديماً وحديثاً أرقى من الحضارات الشرقية، وكان الأستاذ يعرف حوادث تاريخ الشرق والغرب في القرون الوسطى لأنه كان أستاذ تاريخ تلك العصور فذكر لنا قصة رجل خرج على الرشيد فظفر به الرشيد ومثل به تمثيلاً شنيعاً، ثم ذكر قصصاً عن سلخ بعض الفاطميين أسرى من أسراهم وهم على قيد الحياة. فقلت يا أستاذ: هذا تعميم كبير، ولا يتفق مثل هذا التعميم مع العلم الذي يتقضى فروق الزمان والمكان واختلاف طبائع الناس وحكامهم وتباين آرائهم وميولهم النفسية؛ وذكرت له كيف أن سيدنا علي بن أبي طالب (رضه) عندما أصابه عبد الرحمن بن ملجم أوصى قبل موته ألا يمثلوا بقاتله. وذكرته بالتمثيل الشنيع الذي كان حظ من يحاول قتل أمير أو ملك من ملوك أوربا في تلك العصور؛ وذكرت له قصصاً من قصص عدل الخلفاء الراشدين وأخرى من قصص حلم معاوية للدلالة على اختلاف الطبائع وسموها، فذكرت فيما ذكرت