للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٢٣ - محاورات أفلاطون]

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

ما أبعد ما رجوت من أمل، وما أسوأ ما عدت به من فشل! فما مضيت حتى ألفيت فيلسوفي قد نبذ العقل نبذاً كما نبذ كلُّ ما سواه من أسس الاتساق، وانتكس إلى الهواء والأثير والماء وما إليها من شوارد الآراء، فكان عندي أشبه برجل أصر بادئ ذي بدء أن العقل هو علة أفعال سقراط بصفة عامة، فلما أراد أن يبيّن بالتفصيل أسباب أفعالي العديدة، أخذ يبرهن أنني أجلس ها هنا لأن جسمي مصنوع من عظام وعضلات، وأن العظام، كما كان ينتظر أن يقول، صلبة تفصل بينها أربطة، وأن العضلات مرنة وهي العظام التي يحتويها كذلك غشاء، أو محيط من اللحم والجلد. ولما كانت العظام مشدودة إلى مفاصلها لقبض العضلات وسطها، كان في استطاعتي أن أثنى أطراف بدني، وهذا علة جلوسي ها هنا في وضع منحنٍ. أنه كان سيزعم هذا، وكان سيشرح بمثل هذا كلامي إليكم، فقد كان سيفرده إلى الصوت والهواء والسمع، وكان سيذكر من هذا النوع من الأسباب عشرة آلاف سوى ما ذكر، ناسياً أن يشير إلى السبب الحقيقي وهو أن الأثينيين قد رأوا في إدانتي صواباً، فرأيت أنا بناء على ذلك أن الأفضل والأصوب هو مقامي ها هنا محتملاً ما حكم عليّ به، فأرجح الظن عندي أن عظامي وعضلاتي هذه كانت تود لو فرت إلى ميغاراً أو بوتيا - وإني لأقسم بكاتب مصر أنها كانت تود ذلك، إذا لم يكن يسيرها إلا فكرتها هي عن الأمثل، وإذا لم أكن أنا قد آثرت أن أحتمل كلُّ عقوبة تقضي بها الدولة، على اعتبار أن ذلك أفضل وأشرف مسلكاً، بدل أن أمثل دور الآبق فألوذ بالفرار. لا شك أن في هذا كله خلطاً عجيباً بين الأسباب والحالات. وقد يمكن القول حقاً أنني لا أستطيع تحقيق غاياتي بغير العظام والعضلات وسائر أجزاء الجسد، أما القول بأنني أفعل ما أفعل من أجلها، وأن فعل العقل إنما يكون على هذا النحو ولا يكون باختيار الأمثل، فذلك ضرب من القول العابث العقيم؛ وإني لأستغرب ألا يستطيع الناس أن يفرقوا بين السبب والحالة، وهو

<<  <  ج:
ص:  >  >>