في سيارة كبيرة من سيارات (الأتوبيس) جلست وجلس من خلفي وإلى جانبيَّ خلق من الناس رجال وسيدات
السيارة تسير في طريق زراعيّ، وكل من الركب مشغول بنفسه، بعضهم يتحدث إلى جاره، وبعضهم - وهو قليل - يطالع صحيفته، وليس في الصحف مكتوب ولا في كلام الناس متحدث في هذه الأيام غير هذه الحرب العاتية التي يتقدم فيها كل جندي في كل أمة، إما إلى النصر وإما إلى الموت. وبعض من في السيارة يتسلى بالأكل وإلقاء الفضلات على أرضها وبين المقاعد
وارتفع من المقاعد الخلفية صوت رقيق، صوت مغنٍّ. . . وكان غناؤه مرتفعاً حتى سمعناه من أماكن جلوسنا، وبينها وبين مجلسه سطور من الناس
وأبصرت خلفي أنظر هذا الذي يتطوّع لتطريب الناس، وهم لا يستطربوه، وهو لا يعرفهم ولا يعرف تهيؤ نفوسهم لقبول الغناء في ذلك الوقت، وعلى هذه الصورة، وفي (الأتوبيس)
وكان الصوت الرقيق يخرج من أشداق رجل عملاق ضخم الجثة، ضخم المنكبين، ضخم الرأس، ذي أكتاف عِراض، قد استدارت حول ذراعه القوية حلقة حمراء، ورصَّعت على صدره أزرار نحاسية صفراء براقة، وأمسك بيمناه عصا المارشالية. . .!
إنه جندي من رجال جيشنا الباسل الذي فتح السودان وأداخ الدراويش والوهابيين في الجزيرة، والذي أوشك إبراهيم بن محمد علي أن يقتحم به على الدولة العثمانية
كان الجندي من رجال جيشنا الباسل يغني ويدير في شدقيه بصوته الرقيق هذه الأغنية:
يا نور العين يا غالي ... يا شاغل مهجتي وبالي
تعال اعطف على حالي ... وهني القلب ليلة العيد
نظرت ونظر غيري من الركب إلى هذا الجندي يرفع عقيرته يصيح بهذه الأغنية، وكأنما ظن أننا نستزيده فزاد، ولا غرو، فمن خلائق الجندية الشهامة. . .!
ونظرتْ إليه سيدة من الركب نظرة فهمها الناس. . .! ولكن صاحبنا المغني فهمها فهماً آخر، فعلا صوته يعيد: تعال اعطف على حالي. . . وجعل يعلو بها ويفتن في تنغيمها