نعم، سبعون عاما طوالا ثقالا لبثناها تحت نير الاحتلال، نحرث وهو يسوق، ونزرع وهو يحصد! ما كان أصبرنا على النار! وما كان أرضانا بالذل والصغار!
كنا نصبر لأن قلتنا كانت لضعفها لا تستطيع. وكنا نرضى لأن كثرتنا لجهلها لا تدري. والضعف منذ كان سبيل المستأسد إلى الافتراس. والجهل منذ كان دليل المستعمر إلى الفريسة. وهل تنكر طبيعة الحيوان أن يلتقم الحوت الشبوط، أو يلتهم الأفعوان الأرنب؟ أم تنكر مدنية الإنسان أن يستذل الأمريكان السود، أو يستغل الإنجليز الهنود؟ تلك سنة الله في الخلق، لا يبدلها دين ولا يعدّلها علم ولا يعطلها مدنية
سبعون عاما طوالا ثقالا قضيناها تحت سلطان الدخيل الباغي أن له ظلا كثيفا يحجب النور، وزفَرا خبيثا يضعف الشعور، وإشعاعا وبيئيا يسمم الحياة. فلما أراد الله لظله الثقيل أن يخف، ولزفره الوبيل أن يقل، ولإشعاعه المميت أن يتراجع، نفذ إلينا ضوء العلم فرأينا، ورف علينا روح الأمل فتقوينا، وأصبحنا نحن أبناء العرب الذين فتحوا الأرض، وحفدة الفراعين الذين مدنوا الناس، وجها لوجه أمام أبناء القراصين الذين لم يروعوا إلا التجار، وحفدة الصيادين الذين لم يفزعوا إلا الأسماك، نقارعهم بالحجة في مجالس الرأي فنقرعهم، ونصارعهم بالقوة على ضفاف القتال فنصرعهم. فإذا أقلقهم الخوف، وأرهقهم الجزع، وتخطفهم الموت، سلطوا آلات الدمار على البيوت الآلهة، وأطلقوا قذائف النار على الجموع الغافلة؛ حتى إذا نهض لإغاثة الأهلين رجال الشرطة، وعددهم لا يربى على المائتين، وسلاحهم لا يزيد على البنادق، زحف عليهم عشرة آلاف من آكلي البفتيك وشاربي الوسكي، تتقدمهم مئات من الدبابات والمصفحات، وتصحبهم آلاف من المدافع والرشاشات، وتعلوهم أسراب من النفاثات والقاذفات؛ ثم يعود الأبطال من المعركة (الشعراء) وقد امتقعت الوجوه الحمر، وانقطعت القلوب السود، تتقدمهم سيارات الصليب تنقل الجرحى، وتصحبهم ناقلات الجيش تحمل القتلى، وتعلوهم غبرات الخزي تغشى الجباه ويرجع رجال الشرطة إلى أقسامهم متهللين مختالين يقولون في عجب ودهش وسخرية: أهؤلاء هم الذين جثموا على صدر الوادي سبعين عاما جثوم الكابوس المهلك لا يتحلحل ولا يريم؟ الآن وقد رأيناهم عن عيان، وعلمناهم عن يقين، ندرك الحكمة في أنهم منعوا جيشنا السلاح والتدريب، وحرموا شعبنا العلم والتهذيب، فإنهم لا يسودون إلا في