احتفلت مصر بأول السنة الهجرية، فجيَّ في الخواطر ذكر الهجرة النبوية؛ وتمثل للأذهان المثقفة ما سبقها وما وليها وتتابع بعدها من حوادث جِسام بنتائجها القريبة والبعيدة؛ واتجهت القلوب الشاعرة إلى ذلك الوطن الإسلامي المجيد الذي سطع منه نور الحقيقة الدينية فأضاء الآفاق.
وتلك ستون وثلاثمائة وألف سنة خلت بخيرها وشرها وتركت عبرها لمن يعتبر، فيرى أن الله أسعد المسلمين بدينه الكريم، وإنما هم أشقوا أنفسهم بميلهم عن صراطه المستقيم.
قام محمد بالرسالة والعرب على شفا حفرة من النار بما كان لهم من دين وثني في تأخر، وأخلاق في تدهور؛ فأنكروا عليه سعيه وائتمروا به، فهاجر إلى المدينة، ثم عاد إلى مكة المكرمة منصوراً بإذن الله؛ وأدخل الرسول في عقولهم الضالّة وأفئدتهم الشاردة عقيدة التوحيد الذي تجلّى في القرآن الشريف بمنتهى القوة وأروع الجلال، والذي هو جوهر الإسلام المتين على قواعده الخمس.
فاعتدلت أحوال العرب بقواعد الإسلام وعباداته وآدابه، وأصبح المؤمنون بفضل التوحيد أخوة في الدين، وجلَّ به شأن المسلمين. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خير المحسنين إلى الإنسانية بأمانته في إبلاغ الرسالة، وبعظمِه في سيرته الدينية والأخلاقية.
وما أجلَّ قوة الإسلام الذي انتشر سريعاً واستمكن في قارتين على حين كان القتلة يغتالون الخلفاء في أسوأ الحوادث! وأعظِم بها من قوة مدت سلطان الدولة الأموية من الشرق الأقصى إلى الغرب الأنأى في أقل من قرن إن هو إلا لحظة من الدهر! وأكرِم به من دين أزهرت بحسناته المدنية الإسلامية لعهد العباسيين!
فهذا هو الرسول يؤدي الرسالة، وهذا أبو بكر أقلّ عناية بوضع الخطط الحربية منه بالدعوة وجمع القرآن، وبتوطيد الوحدة الإسلامية، وتأسيس حكومة عربية؛ وهذا عمر لا يقلَّ عدلاً عن أبي بكر، وإن زاد ميلاً إلى الفتح وأشرف من الحجاز على جملة الأعمال الحربية؛ وقد كان بقوة يده وشدة شكيمته هو الرئيس الذي تحتاج إليه أمة حديثة التكوّن، يفتْها فيض مغانمها ويظل هو هادئ النفس الأبية، يضاعف بساطة عيشه، ويفخر بثوبه