من بين أبواب الشعر العربي العديدة باب هام جدير بالحديث أيما جدارة ذلك هو باب شعر الوقائع الحربية. وإني لا أزعم أن هذا اللون من الشعر لم تصبه عناية الباحثين فقد بحثه كثير من رجال الدراسات الأدبية وتاريخ الأدب، وأشاروا إلى مواطن الإجادة والإبداع فيه ودلوا على قيمته الأدبية والفنية، إلا أني لم أقع على من خصه بهذا الوصف أو بحثه بحثاً عسكريا أدبيا في آن فإن جل باحثي هذا الشعر كانوا يضعونه تارة في باب الحماسة وأخرى في باب الفخر وأحيانا يزجون به في موضوع المديح وقليل منهم يضمه إلى الوصف، وقد مررت أثناء مطالعاتي لدواوين القدامى بقصائد احتوت على الكثير من أقسام المعارك التي نظمت تلك القصائد بها، أي أنها احتوت على أكثر صفات المعركة كالتحشد والاستطلاع والتقدم والتصادم واستثمار الفوز إلى غير هذه المصطلحات الحديثة. وكانت تصور تلك المعارك تصويرا بارعا يخيل لمن يقرؤها أنه يشاهد عرضاً مصورا لهاتيك الوقائع على تفاوت في السرد والتصوير فمن الشعراء من جعل منظومته لوصف المعركة فقط، ومنهم من مزجها بالمديح أو ذكرها على سبيل الفخر أو أشار إليها في معرض الحماسة.
من هؤلاء الشعراء أبو فراس الحمداني وأبو الطيب المتنبي وأبو تمام وابن هانيء الأندلسي وآخرون غيرهم سجلوا في شعرهم كثيراً من المعارك التي اشتركوا فيها أو شهدوها أو سمعوا بأنبائها. ولكن الذي أجاد وبرع إجادة ظاهرة هو الحارث بن سعيد أبو فراس الحمداني لأن هذا الشاعر اجتمعت له إمارة السيف والقلم اجتماعاً ندر أن يتم لغيره.
فاستمع إليه يحدثك عن حرب له مع الروم واقرأ صفحات هذا المعركة في هذه الرائية صفحة صفحة تعلم صحة ما ذهبنا إليه.
قال يصف تقدم جيشه في بلاد العدو:
وجبن بلاد الروم ستين ليلة ... تغادر ملك الروم فيمن تغادر
ولكن ماذا كان موقف سكان البلاد التي سارت فيها خيول الحمداني ستين ليلة:
تخر لنا ملك القبائل عنوة ... وترمي لنا بالأهل تلك المصادر