كان ألذ ما أتذوقه من جمال بغداد وقفة في حديقة النادي العسكري كل صباح!! فكنت تراني أحرص عليها حرص العابد المتحنث على أداء صلاته، أو العاشق المتوجد على لقاء فتاته، كنت أغشى كل يوم هذا المجتلي الساحر، في رونق الضحى أو في متوع النهار، فأجد الشمس قد لألأت ذوائب النخل وغوارب النهر، وأخذت ترشق بأشعتها الظلال الندية من خلال الشجر، وبنات الهديل يبحثن كعادتهن في عساليج التين وأغصان التوت بأرجلهن ومناقيرهن، وهن يرجعن على التعاقب الحان الخريف؛ والحديقة مطلولة النبات منضورة الزهر تتنفس بالفاغية تنفس الطفل الحالم، والسكون مرهوب الجلال أنيس الوحشة يعمق ثم يعمق حتى تكاد تسمع النبات وهو ينبت!؛ والنادي خلواً من أهله فلا تجد الا بستانياً يعمل في صمت، وغلاماً يكنس في هدوء، وطفلين جميلين يجيئان أحيانا فيجلسان في الشرفة أو يمشيان في الحديقة، فلولا نشوز خادمهما الكهل، ومنظر هندامه الزري الشكل، لحسبتهما زهرتين من زهورها، أو عصفورين بين طيورها،! فأسير في الروضة متئد الخطى مرسل النفس مرهف الحس، تارة بين مماشيها، وتارة فوق حواشيها، فأقف عند كل شجرة، وأحيي كل زهرة، واسأل النبتة الوليدة بالأمس ما حظها اليوم من سر الحياة ونعمة الوجود! ثم أصعد درجة إلى الشرفة، وأنعم ساعة بتلك الوقفة، فأتنسم هواء النهر ملء رئتي، وآخذ جملة المنظر بمجامع عيني،! وأي منظر يسحر اللب ويملك الطرف كهذا المنظر الفاتن؟! الحديقة من ورائي تضوع بالنسيم الأريج وتروق بالرواء البهيج وتروع بالسكون الملهم! ودجلة الخالد من أمامي تتجاوب أصداء الأمم خافتة في لجاجه، وتتهادى خفاف القوارب راقصة بين أمواجه، وأنا بين الشجر والماء كالطائر بين الأرض والسماء، يسبح خاطري في أجواء الماضي القريب والبعيد صاعدا إلى فكرة، أو هابطا على ِذكَره، أو حائماً حول منظر كهذا المنظر تدفق به قلب في قلب، وامتزجت فيه نفس بنفس، وتجمعت الأحلام والأماني كلها فوق رقعة صغيرة من أرضه، وتحت سرحة فينانة من روضه!
لا تظنن هذه الحديقة فيحاء قد تأنقت فيها يد الطبيعة وتألق بها فن