وقعت عيني عليها، فلم أعد أرى سواها. وكنتُ أركب (الامنيبوس) ففتحت الباب وإذا بها أمامي! وفي حجرها كلب أبيض صغير غزير الشعر، وإلى جانبها صاحب لي - جالس كالدمية! فغضضتُ الطرف - أعني أني حولتُ عيني عنها إلى التمثال، وكانت نظرتي واشية بالاعجاب والسرور، فانقلبت نظرة حسد وغيظ - ومقت أيضاً! ولكني كتمتُ ذلك، وأمسكت على ما بنفسي منه، ولم أسمح له أن يطل من عيني، لظني كان تمثالاً مبنياً أو منحوتاً من الحجر، لا إنساناً حياً من لحم ودم، فمضت عنه إلى آخر معقد، وقد زاد حقدي عليه وحسدي له. وجعلت أقول لنفسي - وأنا قاعد، وبيتي وبينهما صفان - إنها لا يمكن أن تكون زوجاً أو قرية، فما خلق مثلها ليشقى بزواج مثله أو يُبتلى بقرابته، وأنه لاحق له في زحامها على مقعدها، وأن من سوء الأدب ألا يفسح لها
ورثيتُ لها، وأشفقتُ عليها من برد هذا التمثال الجامد الذي لا ينبض فيه عرقٌ ولا يطرف له جفن، وهممتُ مرات أن أدعوه إلي، ولكني رددت نفسي عن ذلك، مخافة أن تكون معه، فان النساء - كل شيء - حظوظ وأرزاق، وقد سمعتُ وحفظتُ من أمثال عامتنا أن الله يشاء أحياناً أن يعطي الحلق لمن ليس له اذنٌ!
وبلغتُ (محطتي) فنزلت، ومنحتُ السيارة ظهري، فقد شق علي أن أراها تمضي بهذه الفتاة. فلما آذنني صوتها - أعني صوت السيارة - أنها بعدت عني، درت، فاذا بالفتاة إلى جانبي وأطراف أصابعها على فمها، وفي وجهها كل آيات الحيرة والاضطراب، ولم أر الكلب، فتلفتُ فبصرت به يعدو ويسابق ظله الصغير، ولم أبصر صاحبي في مكان قريب أو بعيد، فلم يبق محل للتردد، فخلعتُ معطفي ورميته بلا تفكير، وذهبت أعدو وراء الكلب، فأدركته بلا عناء، فقد كان صغيراً وخطوه متقارباً، ورفعته عن الأرض ووقفت أمسح له شعره الناعم - لأستريح!
وسمعت صوتاً رخيما يقول لي:(أشكرك! إن هذا منك غاية المروءة)