كثيرا ما يبدأ الفكر الإنساني بدراسة نفسه، ثم ينتهي إلى إحدى نتيجتين: فهو أما أن ينظم العقل في سلك المظاهر المادية التي تخضع للقوانين الآلية الصارمة، ثم ينصرف بناء على ذلك إلى دراسة الوجود المادي بما فيه من صور وأوضاع؛ وأما أن ينتهي إلى إنكار ذلك الوجود المادي جملة وتفصيلا، واعتباره من خلق العقل وتكوينه، ثم يتجه على هذا الأساس إلى دراسة العقل وحده، لأن في دراسته دراسة للوجود بأسره، ما دام هو الذي خلق هذا خلقا، وأنشأه إنشاء.
إذا فقد أنقسم الفلاسفة إلى قسمين مختلفين: فريق ينصرف بأسره إلى العلوم الطبيعية لأنها السبيل إلى تفهم مظاهر الكون، وفريق ينكب على دراسة النفس انكبابا، لأنها هي كل شيء. ونحن نستطيع أن نقول في شيء من الدقة أن تاريخ الفلسفة الحديثة ينحصر في هذا العراك العنيف القائم بين علم النفس والعلوم الطبيعية، فهذه تنشد الحقيقة في دراسة الظواهر المادية، وقد ترى في طريقها من بوارق الأمل الباسم ما تمضي معه في بحثها ثابتة اليقين موطدة العزيمة، وذلك يلتمسها في دراسة النفس دون المادة وهو مؤمن أن ليس أقوم من تلك السبيل سبيل.
ولكن جاء القرن التاسع عشر، فانعرج ذلك المجرى الفكري بعض الشيء، واتجه إلى دراسة المظاهر المادية اتجاها مباشراً، دون الوقوف على هذه النفس الإنسانية وقفة تحليلية، ولعل ذلك راجع إلى أن الإنسان قد خيل إليه أن العلوم الرياضية والميكانيكية وما إليها، هي التي دفعت به في العصر الحديث هذا الدفع السريع، وله عذره في هذا الظن. ما دامت الصناعة التي تدوي أرجاؤها في أوربا، والتي قلبت الحياة رأسا على عقب، هي ربيبة تلك العلوم. . . إذا فلماذا لا تدرس هذه العلوم الطبيعية دون سواها؟ هكذا اصطبغت الفلسفة في القرن الماضي بصبغة مادية، وذهبت في الفضاء صيحة ديكارت التي ألح بها في أن تبدأ الفلسفة سيرها من النفس ثم تتابع طريقها إلى العالم الخارجي.
انطوى القرن التاسع عشر أو كاد، فبدأ الإنسان يفيق بعض الشيء من تلك الفتنة التي أخذه