بها الانقلاب الصناعي، واخذ الفكر ينزع عن نفسه شيئاً فشيئاً ذلك الثوب المادي الذي أشتمله واحتواه حينا من الدهر. ويبحث عن حقيقة الوجود في (الحياة) التي تدب في أنحاء الكون، لا في حركة القصور الذاتي التي تنتظم الجماد، وما زال الفكر يمعن في هذه النزعة الجديدة حتى كادت الحياة تدب في المادة نفسها، واصطبغت العلوم الطبيعية بصبغة حيوية، وهكذا كتب لها أن تلقي السلاح وتندحر أمام علم النفس فيما نشب بينهما من عراك.
ولعل شوبنهور هو أول من فطن إلى (الحياة) هي أساس الوجود؛ ثم جاء برجسون في عصرنا الحاضر وتناول هذه الفكرة بحثا واستقصاء، حتى استطاع بقوة أيمانه أن يجذب إليها أنظار هذا العالم الذي طغت عليه روح اللاأدرية والشك طغيانا مروعا.
عكف برجسون على دراسة المذهب المادي، وخلاصته أن العالم كتلة موات من المادة والحركة، وأن الحياة والفكر وكل خصائص الإنسان ليست سوى أعراض مختلفة لتفاعل المادة والقوة التي تحرك دقائقها، فكان كلما أمعن في تلك الدراسة، ازداد يقينا بفساد ذلك المذهب، وهو يتساءل في دهشة: إذا كان العقل مادة وكانت كل عملية عقلية عبارة عن هزة عصبية لا أكثر ولا أقل، فما فائدة الشعور؟ أليس مجرد وجود الإدراك دليلا قويا على ضرورته؟
يقول المذهب المادي أن ليس ثمة (حياة إرادية)، أي ليس في الوجود تلك القوة الحيوية التي تريد هذا فتعمله، ولا تريد ذاك فتنبذه، وكل ما هنالك حالات مادية متتابعة، كل حالة نتيجة لما قبلها ومقدمة لما بعدها؛ وهنا يتساءل برجسون: إذا كان الوجود وما يحوي في لحظة معينة نتيجة آلية للحظة التي سبقتها (دون أن تكون هناك قوة مدركة تنشئ وتكون وتختار) وإذا كانت تلك اللحظة السابقة بدورها أثراً آليا للتي سبقتها، وهكذا دواليك، فنحن إذا سنسير في هذا التسلسل حتى نصل إلى السديم الأول، ونتخذ منه سببا لكل ما طرأ على الكون من أحداث، لا فرق بين دقيقها وجليلها! ماذا؟ هل يريدنا ذلك المذهب على أن نعتقد بأن السديم هو السبب فيما كتبه شكسبير مثلا؟ وأنه العلة في خطابه أنطوني وهملت؟!
هكذا أخذ برجسون من منطق الماديين ما يكفي وحده للرد عليهم ودك مذهبهم من أساسه.
العقل والجسم
لعل ما حدا بالإنسان إلى النزعة المادية في تفكيره هو ارتباطه بالمكان ارتباطا وثيقا، حتى